في ذكرى عبد العظيم محمد... ألحان لثلاثة أجيال

19 يناير 2025
عبد العظيم محمد في بورتريه لفاضل الربيعي (فيسبوك)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- البداية والتطور الفني: نشأ عبد العظيم محمد في قرية صندفا بصعيد مصر في بيئة دينية، مما أثر على اهتمامه بالألحان الدينية. بعد تخرجه من المدرسة الصناعية، انتقل إلى القاهرة لدراسة الغناء في المعهد العالي للفنون المسرحية، مما أتاح له التفرغ للفن والتلحين.

- التعاونات الفنية والنجاحات: تعاون مع نجوم مثل نجاة الصغيرة وعبد الحليم حافظ، وقدم ألحانًا مميزة نالت إعجاب الجمهور. شارك في تلحين أغاني فيلم "الشيماء"، ورغم عدم تحقيقه للشهرة الكاملة، إلا أن ألحانه كانت محبوبة.

- الإرث الفني والتأثير: ترك إرثًا تجاوز الألف لحن، شمل الأوبريتات والصور الإذاعية، مما جعله من أبرز ملحني القرن العشرين. أثر في ثلاثة أجيال من المطربين، رغم التحديات بوجود عمالقة مثل محمد عبد الوهاب.

قرّر المستشار الموسيقي للإذاعة المصرية، محمد حسن الشجاعي، اعتماد المطرب الصاعد جلال فكري ضمن الدفعة الناجحة لعام 1952، وطلب منه أن يقدم ربع ساعة من أغانيه عبر الراديو، فقدم أغنيتين نال لحناهما إعجاب الشجاعي، فبادر متسائلاً عن اسم الملحن، ليخبره فكري أن الألحان للشاب الصعيدي عبد العظيم محمد الذي بدأت الأوساط الفنية القاهرية تتعرف إليه. طلب المستشار لقاء محمد، وعبّر له عن إعجابه بأسلوبه التلحيني.

لم يكن ذلك أمراً هيّناً، فالشجاعي اشتهر بصرامته، وأنه لا يكاد يعجبه شيء، لكن موهبة الشاب الصعيدي أقنعته بضرورة استفادة الإذاعة من تلك الروح الجديدة، فقدم كثيراً من الدعم والمساندة للملحن الشاب، ليبدأ مسيرة تعاونه مع نجوم الطرب والغناء الذين كانت أصواتهم تصدح عبر إذاعة القاهرة.

ولد عبد العظيم محمد في قرية صندفا التابعة لمركز بني مزار بمحافظة المنيا في صعيد مصر، ونشأ في أسرة متدينة، فحفظ قدراً من القرآن في كُتّاب القرية، ولفت جمال صوته انتباه شيخه، فكان يطلب منه أن يقرأ بعض التلاوات وسط التلاميذ. وبعد حصوله على الشهادة الابتدائية، التحق محمد بمدرسة المنيا الصناعية. وبمحض الصدفة، استمع إلى أحد عازفي العود، فأخذ بصوت الآلة، حتى ملكت عليه تفكيره، فظل يدخر من مصروفه البسيط حتى استطاع أن يدبر 25 قرشاً، أو ربع جنيه، هو ثمن أول عود اشتراه.

لم يكن من السهل أن يجد محمد مدرساً للعود في بني مزار، فأخذ يُعلم نفسه، معتمداً على أذنه الموسيقية. لذا، لم يُضِع وقتاً كثيراً، فمبجرد أن تخرج من المدرسة الصناعية عام 1941، قرر الانتقال إلى القاهرة. وبسبب إجادته للغة الإنكليزية، تمكن من الحصول على وظيفة "مدرس عملي" في كلية الهندسة في جامعة عين شمس.

في القاهرة، بدأ الشاب المولع بالتلحين في التردد على معهد فؤاد الأول للموسيقى العربية، وبدأ باستكشاف الأوساط الفنية في العاصمة. لكن مع دخول عام 1947، قرّر محمد الالتحاق بالمعهد العالي للفنون المسرحية الذي افتتح أبوابه حديثاً، وقرّر أن يدرس في قسم الغناء، حتى تخرج من المعهد عام 1950. ولا ريب أن إجادة العزف على العود بمستوى عالٍ، مع دراسة الغناء وأساليبه، مثلت إعداداً متيناً وصقلاً لهذا الملحن الذي ترك آثاره الفنية الكبيرة على الحركة الغنائية المصرية خلال النصف الثاني من القرن العشرين.

انطلق عبد العظيم محمد وراح ينثر ألحانه المستساغة جماهيرياً على كل الأصوات المعروفة من نجوم الإذاعة. تعاون مع نجاة علي، وفايدة كامل، ومحمد قنديل، وكارم محمود، ونجاة الصغيرة، وليلى مراد، وعادل مأمون، وإسماعيل شبانة، ونجاح سلام، وماهر العطار، وإبراهيم حمودة، وسعاد محمد، وشفيق جلال، ورجاء عبده، وسعاد مكاوي، وشهرزاد، وعبد اللطيف التلباني، وشريفة فاضل، وفايزة أحمد، ونازك، ومحمد عبد المطلب، وهدى سلطان، وعصمت عبد العليم، وجلال فكري، وعبد الغني السيد، ووردة، ومها صبري، ومحمد رشدي، ومحمد العزبي، ومحرم فؤاد، وغيرهم كثير جداً، بل إنه أعطى لحناً لعبد الحليم حافظ، هو أغنية "الفنارة"، من كلمات عبد الرحمن الأبنودي، والأعجب، أن بليغ حمدي غنى عملاً من ألحانه هو "يا ليل العاشقين"، من كلمات محمد فتحي مهدي.

بالطبع، تفاوت حجم التعاون من مطربة إلى أخرى ومن مطرب إلى زميله، وبعض الأصوات نالت من الرجل لحناً أو لحنين أو ثلاثة، لكن فايزة أحمد مثلاً غنت له أكثر من 15 لحناً، وغنت فايدة كامل من أعماله أكثر من 20 لحناً، وغنى له قنديل عشرات الأعمال. قدّم الرجل كثيراً من الألحان إلى الجيل الأحدث من المطربين والمطربات، ومنهم ياسمين الخيام، وعليا، وزينب يونس، وإيمان الطوخي، وعماد عبد الحليم، وعلي الحجار، وهاني شاكر، ومحمد ثروت، ومحمد الحلو.

كان عبد العظيم محمد مهتماً بالصورة الإذاعية، وكرّر في حواراته ولقاءاته الحديث عن ضرورة إحيائها وتقديم جديد منها، باعتبارها ميداناً متاحاً بعد اندثار المسرح الغنائي. ومن أشهر الصور الإذاعية التي تركها: "رضوان" من كلمات زين العابدين عبد الله، و"حفر القناة" لعلي مهدي، و"الصياد" لأحمد شوقي، و"رحلة الشباب" لعبد الفتاح مصطفى، و"فواكه الشعراء" لأمينة الصاوي، و"سهرة المولد" لعلية الجعار، و"الدار لأهل الدار" التي كتبها محمد إسماعيل جاد.

وبالرغم من الإنجاز التلحيني الكبير لعبد العظيم محمد منذ عام 1952، فإن عام 1972 كان مفصلياً في مسيرته، إذ اشترك في تلحين أغاني فيلم "الشيماء" من إخراج حسام الدين مصطفى، وهو فيلم ديني غنائي، كانت بطولة التمثيل فيه لسميرة أحمد وأحمد مظهر، وكانت البطولة الغنائية المطلقة لصوت سعاد محمد. تضمن الفيلم ست أغانٍ توزعت على ثلاثة ملحنين: بليغ حمدي، ومحمد الموجي، وعبد العظيم محمد الذي كان نصيبه أغنيتين هما: "يا محمد" و"طلع البدر علينا". ولكن سجّلهما، واستمع إليهما مخرج الفيلم، قرّر أن يسند إليه لحن بداية الفيلم ونهايته "إنك لا تهدي الأحبة"، و"أشرقت شمس الهدى". حققت الأغنيتان نجاحاً كبيراً، واعتبرهما كثيرون إضافة مهمة إلى قائمة أعمال سعاد محمد. 

لعل النشأة الدينية، والتمرس بالتلاوة والإنشاد، كان لهما الدور الأكبر في اهتمام عبد العظيم محمد بالألحان الدينية، كذلك فإن خبرته بتلحين الصورة الإذاعية ساعدته على وضع موسيقى توحي بأجواء الصحراء والخيام وقوافل الإبل. ترك الرجل عدداً كبيراً من الألحان الدينية، منها:

"بشرى لهذا اليوم" لإيمان الطوخي، و"رمضان" لفايدة كامل، و"عودة رمضان" للثلاثي المرح، و"الله لسه بدري يا شهر الصيام" لشريفة فاضل، و"مولد الرسول" لشهرزاد، و"مولد الهادي الأمين" لهدى سلطان، و"يا راية الإسلام" و"باه أنت ولا سواك" لياسمين الخيام، و"الحب في الله" و"لا تكلني لسواك" لإسماعيل شبانة، و"سبح لله" و"يا واسع المغفرة" لعبد المطلب، و"صل ع المصطفى" و"الصلاة يا مؤمنين" لمحمد قنديل. كذلك وضع ثلاثة ألحان للشيخ محمد عمران هي: "رباه يا رباه"، و"يا هادي"، و"سبحان من بالعلم". يذكر عبد العظيم محمد أن معهد الموسيقى كان يأتي ببعض الشيوخ ليدرسوا القرآن الكريم للطلاب بغرض صقل نطقهم وتحسين أدائهم، وتذكر ابنته أنه ظل مهتماً بتجويد القرآن، حتى آخر حياته.

يقرّ أكثر المهتمين بالغناء بأن عبد العظيم محمد لم يحقق الشهرة التي يستحقها، بل إن شهرة بعض ألحانه تفوقت على شهرته شخصياً، فكثير من المستمعين لا يعرفون أنه واضع ألحان أغنية عبد المطلب الشهيرة "في قلبي غرام"، أو الأغنية السينمائية ذائعة الصيت "حطة يا بطة" التي غنتها ماجدة الصباحي، أو أغنية "المداح" لمحمد قنديل، أو "بالسلامة يا حبيبي بالسلامة" لنجاح سلام، أو "الحلو فايت" لشفيق جلال.

في هذا السياق، من المهم الانتباه إلى أن محمد ظهر في ظل الهيمنة الكبيرة لمحمد عبد الوهاب ورياض السنباطي، وتحقيق أي قدر من الشهرة في وجود هذين الاسمين ليس سهلاً. كذلك فإنه لم يكن يتقن التعامل مع الصحافة والإعلام. ومن المؤكد أن تعثر مشروع التعاون المقترح بينه وبين أم كلثوم قلل من انتشاره الجماهيري.

ولد عبد العظيم محمد في يناير/كانون الثاني عام 1923، ورحل عن عالمنا في يناير عام 2008، بعد رحلة فنية اقتربت من ستة عقود، كان خلالها واحداً من أهم الملحنين المصريين الذين يقفون في موقع تالٍ مباشرة لموقع جيل الرواد، مثله مثل عبد العظيم عبد الحق ومحمود الشريف وأحمد صدقي. وهو كزملائه، تميز بإنتاج غزير، إذ تتجاوز ألحانه ألف عمل، ومع احتساب الصور الإذاعية والأوبريتات، فإن ألحانه تتخطى الثلاثة آلاف، قدمها عبر أصوات ثلاثة أجيال من المطربين والمطربات، ولا ريب أن هذا الإنتاج في حجمه وفي نوعه يضع صاحبه ضمن أبرز من شكلوا المشهد الغنائي المصري في النصف الثاني من القرن الماضي.

المساهمون