فيلم "الثلاجة": الجثمان بوصفه شاهداً على الجريمة الإسرائيلية

20 يوليو 2025   |  آخر تحديث: 21 يوليو 2025 - 11:03 (توقيت القدس)
يجسّد الفنان عمر جوري شخصية الابن الشهيد (من المخرج)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- فيلم "الثلاجة" للمخرج عدنان البوبلي يسلط الضوء على قضية احتجاز جثامين الشهداء الفلسطينيين في ثلاجات الاحتلال، ويعبر عن معاناة الأمهات الفلسطينيات باستخدام صور ومشاهد مؤثرة.
- مستوحى من وصية شخصية، يُعد الفيلم أولى تجارب البوبلي في الإخراج، وتم تصويره في مواقع مثل نابلس والمستشفى العسكري الإسرائيلي، وشارك فيه فنانون مثل ميس أبو صاع وعمر جوري.
- منذ 2008، تسعى حملة وطنية فلسطينية لاستعادة جثامين الشهداء وفق القانون الدولي، وفيلم "الثلاجة" يرفع الوعي حول هذه القضية الإنسانية.

فيما تُجمع المبادئ الإنسانية على ضرورة احترام أجساد الضحايا والامتناع عن عرضها بما يمسّ بكرامتهم ويفجّر مشاعر ذويهم، يقرّر المخرج الفلسطيني عدنان البوبلي أن يواجه هذا الحظر برؤية معاكسة، عبر عدسة تُقدّس الجسد لا تُهينه. في فيلمه القصير "الثلاجة"، لا يعرض البوبلي الجثمان فقط بوصفه شاهداً على الجريمة، بل كائن حيّ ينتظر وداعاً تأخّر. جسد أنهكه الاحتلال مرتين: مرّة حين قتله، ومرّة حين قرر أن يحتجزه في ثلاجات الموتى، حارِماً عائلته من حقّ الوداع والتشييع والدفن.
الفيلم الروائي القصير، الذي تبلغ مدته خمس دقائق، يوجّه لكمة شعورية للمشاهد، تترك أثرها الطويل بعد انتهاء العرض. فمع كل مشهد، تتراكم الأسئلة الحارقة: ما الذي يعنيه أن يُحتجز الجسد في برودة معدنية قاتلة؟ وكيف يمكن للأم أن تعيش سنوات على وقع انتظار دفن ابنها؟ يمضي الفيلم إلى أقصى حدوده البصرية والعاطفية، مستعيناً بصور مكثّفة ومشاهد موجعة كتبها البوبلي وأخرجها، لتعبّر عن شكلٍ من العقاب يمتدّ إلى ما بعد الموت.

في حديثه لـ"العربي الجديد"، يقول عدنان البوبلي إنّ الفيلم يروي يوماً من حياة أم فلسطينية ابنها الشهيد محتجز في ثلاجات الاحتلال. تعيش هذه الأم حالة من الانفصال عن الواقع، يتكشّف للمشاهد في نهاية الفيلم، حيث نكتشف أنها كانت تتخيّل وجود ابنها وتتفاعل معه. في لحظة مواجهة، تعود ذاكرتها إلى البرد القارس في ثلاجات الموت، فتجتاحها الصدمة وأسئلة لا تنتهي. هناك، في منطقة رمادية بين الحياة والموت، تعيش الأم في عالم موازٍ لا يشبه الواقع، لكنه يستمدّ واقعيته من الألم الفلسطيني اليومي.
تتنقّل مشاهد الفيلم بين موقعين: الأول هو منزل الأم وابنها في نابلس، حيث تدور الأحداث الخيالية، وتلعب فيه الفنانة ميس أبو صاع دور الأم، ويجسّد الفنان عمر جوري شخصية الابن الشهيد. أما الموقع الثاني، فهو المستشفى العسكري الإسرائيلي، وتم تصويره في مستشفى جامعة النجاح، وشارك فيه الفنانون أحمد الجيطان وبراء الخليلي بدوري الجنديين.
يُختَتم الفيلم بعبارة صادمة: "منذ عام 2015 تحتجز حكومة الاحتلال 354 جثماناً في ثلاجات القهر الإسرائيلي... تم تحويل سبعة منهم بقرار قضائي إلى مقابر الأرقام، فيما يبقى عدد شهداء غزة المحتجزين مجهولاً منذ اندلاع حرب الإبادة الأخيرة على قطاع غزة".

ولِدت فكرة الفيلم من وصيةٍ شخصية لأحد أقارب المخرج، أوصى فيها بدفنه فوراً وعدم وضعه في الثلاجة. كانت هذه العبارة كفيلة بإشعال سلسلة من الأسئلة في ذهن البوبلي، فبدأ ببلورة فكرة تحوّلت لاحقاً إلى مشروع سينمائي. يرى المخرج أن قضية احتجاز الجثامين "مظلومة إعلامياً"، وغالباً ما يتم تجاهلها في الإنتاجات البصرية رغم ما تحمله من أبعاد إنسانية عميقة.
وتحمل هذه التجربة أهمية خاصة للبوبلي، إذ تُعد أولى تجاربه في الإخراج والكتابة السينمائية، رغم مشاركته ممثلاً في أعمال درامية سابقة مثل نزيف التراب، أولاد المختار، كفر اللوز، والأغراب، إلى جانب تجاربه المسرحية وتأسيسه "مسرح رسائل" في نابلس عام 2015.

اختار مهرجان "طوب"، الذي نُظّم بالتعاون بين "مركز دار الفنون والتراث" و"مسرح رسائل" في مخيم عسكر بنابلس، فيلم "الثلاجة" ليكون من أبرز أعماله، نظراً لأهمية الموضوع الذي يطرحه. يقول مدير المركز، حاتم الحافي، لـ"العربي الجديد" إن المخيم يعاني من هذه القضية، ولديه العديد من الشهداء المحتجزة جثامينهم لدى الاحتلال. من هنا، كان عرض الفيلم بالتعاون مع الحملة الوطنية لاسترداد جثامين الشهداء، خطوة لرفع الوعي وتسليط الضوء على جريمة لا تزال مستمرة، ولا تحظى بالاهتمام الكافي، رغم ما تنطوي عليه من انتهاك صريح لكرامة الإنسان، بما فيها من شبهة "سرقة أعضاء"، على حد تعبيره.

فلسطينياً، انطلقت منذ عام 2008 حملة وطنية شعبية للمطالبة باستعادة جثامين الشهداء الفلسطينيين والعرب، المحتجزة لدى الاحتلال الإسرائيلي، سواء في ثلاجات الموتى أو ما يُعرف بـ"مقابر الأرقام". هذه الأخيرة، مقابر سرية تستبدل فيها أسماء الشهداء بأرقام، من دون شواهد أو معلومات، في محاولة لمحو أثرهم وحرمان ذويهم من طقوس التشييع والدفن.

تستند الحملة إلى القانون الدولي الإنساني، وتحشد الرأي العام الدولي للضغط على إسرائيل من أجل تسليم الجثامين. وتطالب بالسماح بدفن الشهداء وفق التقاليد الدينية والعائلية الفلسطينية، بما يضمن احترام كرامة الموتى وحقوق عائلاتهم.
"الثلاجة" ليس مجرد فيلم قصير، بل صرخة فنية في وجه نظام يُمعن في إهانة الضحية حتى بعد الموت. خمس دقائق لا تكفي لشرح فداحة الجريمة، لكنها كافية لتُبقي السؤال مفتوحاً: متى يُدفن الشهداء في ترابهم؟ ومتى تُدفن هذه الممارسات إلى الأبد؟

المساهمون