فيلم "سبنسر": مأساة ليدي ديانا مرة أخرى على الشاشة

فيلم "سبنسر": مأساة ليدي ديانا مرة أخرى على الشاشة

04 يناير 2022
كريستن ستيوارت خلال عرض الفيلم في مهرجان البندقية (ستيفاني كادرينال/Getty)
+ الخط -

يخبرنا فيلم "سبنسر" (2021) في عنوانه الافتتاحي أننا بصدد مشاهدة "حكاية تستند إلى مأساة حقيقية"، وبهذا يتجنب الفيلم أية انتقادات حول المصداقية التاريخية للأحداث الواردة خلاله. فالفيلم ليس توثيقاً لحياة ليدي ديانا (1961-1997) المعروفة للجميع، بل هو مبني على الكثير من الخيال المستند إلى سيرتها. في "سبنسر" لا يحيد المخرج التشيلي بابلو لارين عن أسلوبه في اختيار فترة معينة مفصلية في حياة شخصية تاريخية عوضاً عن رواية سيرة ذاتية كاملة؛ كما فعل مسبقاً في فيلم "جاكي" (2016) الذي يرصد حياة جاكلين كينيدي في الأيام التالية لاغتيال زوجها رئيس الولايات المتحدة جون إف. كينيدي، وفي "نيرودا" (2016) حيث نتابع حكاية هروب الشاعر بابلو نيرودا خلال فترة استلام الرئيس غابرييل غونزاليس فيديلا السلطة في تشيلي.
يأخذنا لارين إلى قصر ساندرينغهام في نورفولك (إنكلترا) خلال احتفالات العائلة المالكة بعيد الميلاد (1991) وهو الوقت الذي بدأ فيه زواج ليدي ديانا (كريستن ستيوارت) والأمير تشارلز (جاك فارثينغ) بالانهيار علناً. ديانا ذات الروح الحرة سجينة هنا؛ مراقبة دوماً، لا تمتلك أدنى خصوصية، أسيرة لقوانين مرهقة وطقوس غريبة مع فرصة ضئيلة للغاية في التحرر من سلطة القصر والحيز الجغرافي الضيق المسموح لها بالتحرك ضمنه.

لا يقارب الفيلم قصص الأميرات التقليدية، فالأميرة هنا تحلم بالانعتاق من القيود الملكية الصارمة والعيش بحرية كما عامة الشعب. الليدي ديانا التي تستمد فرادتها من تمسكها بهويتها الخاصة، رغم كونها حبيسة نظام يطالبها بالطاعة الصامتة، تائهة، مجبرة على أداء دور لا يشبهها، منعزلة، ووحيدة، يحكمها الماضي دون أي أمل بالمستقبل. لا يركز النص الذي كتبه ستيفن نايت على أفراد العائلة المالكة. ولكن، ومن خلال مشاهد قليلة للملكة والأمير تشارلز والخدم الذين يتحركون كأجهزة تنصت ومراقبة، يتمكن من إيصال الطابع الجليدي المخيم على القصر. وهو يفترض ضمناً أن جمهور ديانا على دراية تامة بتفاصيل حياتها التي قدمت مراراً في الأفلام والمسلسلات، لذا يبدو أن لارين أراد في الفيلم تصوير العالم بعدسة أميرة ويلز محاولاً تخمين ما حدث خلف أسوار القلعة خلال ثلاثة أيام مصيرية من حياتها.
من خلال هذا التكثيف الزمني يتوغل الفيلم في متاهات عقل ديانا وهي في ذروة انهيارها النفسي؛ يتعمق داخل ندوبها العاطفية وهلاوسها وما تختلقه مخيلتها. تتبعها الكاميرا وراء الأبواب المغلقة وهي تستسلم للشره المرضي ونوبات الاكتئاب وإيذاء النفس. أيضاً، تغوص ديانا في أوهام كابوسية تبلغ ذروتها حين تتخيل تمزيق عقدها المصنوع من اللؤلؤ الملتف حول رقبتها، العقد الذي أهدى تشارلز مثيله إلى "المرأة الأخرى" التي يتجاهل الفيلم تسميتها، والتي تلوح في مشهد من بعيد ولكن آثارها في دمار ديانا حاضرة طوال الفيلم.

شبح آن بولين، الزوجة الثانية للملك هنري الثامن التي ماتت مقطوعة الرأس بعد اتهامها زوراً بالزنا، يطارد ديانا طوال الفيلم، كنذير واضح للموت، في نص مليء بالاستعارات التي تنذر بمصير الأميرة المشؤوم. في حين تحضر الذكريات المشرقة لطفولتها بوتيرة متزايدة مع تقدم الفيلم، تذكير محزن ببراءتها المفتقدة وتوقها المستمر إلى تحطيم السلاسل الملكية واستعادة حريتها المسلوبة لتعود إلى هويتها الحقيقية "سبنسر"، اسمها قبل الزواج والألقاب، والذي استمد منه لارين عنوان فيلمه.


كريستن ستيوارت التي كانت خياراً غير متوقع من المخرج، استناداً إلى عدم تشابهها الشكلي مع ديانا وإلى أسلوبها المعتاد في الأداء، تتبنى نهجاً مختلفاً في تقمص ديانا؛ لا يعتمد على بناء صورة مطابقة عنها، بل على استحضار روحها الهشة وعكس عالمها الداخلي في إيماءات جسدها والألم الحاضر في عينيها. يقدم لارين دراما نفسية قاتمة، بألوان ضبابية باهتة، وكاميرا تلاحق ديانا داخل ردهات ومساحات على وشك أن تبتلعها، وتبقى ثابتة لتصوير محيط جامد لا يتحرك. مع ظلال الرعب المخيم على قصر ساندرينغهام، بممراته الطويلة وأدراجه اللولبية التي تستحضر عذاب ديانا النفسي، وضمن القصر الريفي الذي يشبه سجناً ذهبياً، تنساب الكاميرا بين الواقع والخيال، على وقع موسيقى جوني غرينوود التي تجمع بين الباروك والجاز الحر، وتتصاعد بإيقاعات متنافرة ومخيفة، لتشكل حاملاً أساسياً للقصة وجزءاً أصيلاً من تداعيات الحالة الذهنية لديانا وانهياراتها التي يتداخل فيها الحقيقي مع المتخيل.

الفيلم رثاء حميمي وشاعري لأميرة غير تقليدية، بل امرأة من لحم ودم، خاضت معركة مضنية ضد سلطة خانقة لاستعادة حريتها وترك إرثها الخاص، ودفعت ثمناً باهظاً لذلك. لذا لا يمكن اعتبار أن بابلو لارين خرج عن السياق السياسي لأفلامه في "سبنسر"، بل ظل مخلصاً لتعاطفه مع الإنسان الحر ضد السلطة. لذا اختار أن ينهي فيلمه بانتصار متخيل لديانا وحقها في العيش كما تحب، بما يوحي بأمنيات لنهاية سعيدة لم تتحقق في الواقع.

المساهمون