فيلم "التنقيب": تلك الآثار التي نتركها خلفنا

فيلم "التنقيب": تلك الآثار التي نتركها خلفنا

11 فبراير 2021
لاقى العمل بعض الانتقادات حول تجاهله الممثلات الكبيرات في السن (نتفليكس)
+ الخط -

حاز فيلم (التنقيب) The Dig، الذي يُعرض على منصة نتفليكس، استحسان النقاد، وجذب عددا كبيرا من المشاهدين بحسب المراجعات. الفيلم مبني على رواية جون بريستون، بالعنوان نفسه، ومن إخراج سيمون ستون. يستعرض العمل واقعة اكتشاف واحدة من أكثر الحفريات الأثرية شهرة في بريطانيا، وهي سفينة أنغلوسكسونية كانت تستخدم للدفن، وتقع في تلال مزرعة ساتون هوو في المقاطعة الإنكليزية سوفولك، في عام 1939. الفيلم من بطولة كاري موليغان، ورالف فاينس، وليلي جيمس، وجوني فلينس، وبن شابلن، وكين ستوت، وأرشي بارنز، ومونيكا دولان. 

المحور الرئيسي للحدث السينمائي هو السيدة إيديث بريتي، الثرية ومالكة الأراضي في سوفولك. يتملك السيدة بريتي حدس بوجود كنز أو أثر مهم مدفون في أراضيها، ما يدفعها إلى توظيف بازيل براون، وهو عالم آثار محلي علّم نفسه في هذا المجال، ليتولى عمليات التنقيب.

تتطور الأحداث لتعكس كيف أسهم إصرار هاتين الشخصيتين على الاستمرار في البحث، رغم عدم إيلاء متحف إبسويتش الاهتمام الكافي لجهدهما، ومحاولة القيمين عليه صرف نظرهم عن الاستمرار بالعمل. في رمزية عالية تتبدى حالة حب غير ملموس ينشأ بين السيدة بريتي وبين براون.. حب يشبه التقاء روحين متوقدتين بشغف التاريخ وبفضول علمي عال. اختلاف شخصية السيدة بريتي، مرهفة الحس، عن بازيل براون المتصلب والعنيد، والفارق الطبقي والعمري بينهما، لا يمنع من أن يستشعر المشاهد وجود طاقة من الأحاسيس تجمعهما، وتلون المشهد بلذة خفية.

يتكثف المعنى حيث تقع الأحداث في سياق الحرب العالمية الثانية في حاضر مشحون بالعنف ومستقبل غير مضمون. لذا، يبدو الماضي محملاً بقيمة مضافة لواقع تعجز فيه الشخصيات عن ضبط الجنون المحيط بها. تحمل شخصية السيدة إيديث بريتي سؤالاً عميقاً حول معنى الوجود وجدواه، مع خسارتها لزوجها ومع إصابتها بمرض يتهدد حياتها ووجودها، كإنسانة وأم لطفل وحيد. في بحث السيدة بريتي عن آثار مدفونة رغبة في تحدي الخواء والفقدان والخسارة. 

يحمل الفيلم روح الدراما البريطانية الكلاسيكية بهدوء الريف الساحر، وبمشاهد بانورامية تعكس الطبيعة وسكينتها. كما تنطوي الحوارات على أحلام وآمال وفلسفة لا تتفق مع واقع الحرب العنيفة التي تهدد الجميع. هذا الريف يناقض العالم المتسارع وضجيجه في لندن، حيث استعدادات الطوارئ للحرب. هكذا تصبح الطبيعة واحة الخلاص الأخيرة، والذي يقطع صمتها بين حين وآخر ضجيج الطائرات النفاثة التي تمارس تدريباتها من نقطة غير بعيدة عن أراضي السيدة بريتي.


لكن، في لحظات معينة، تأتي هذه الرمزية على حساب خلق شخصيات أكثر واقعية وإنسانية؛ إذ يقتصر حضورها على تحقيق حالة أشبه بالحلم. فالمشاهد لا يستطيع التعمق برغبات وأفكار ودافع الشخوص، وتصبح الأحداث المتتالية هي المحرك الرئيسي للدراما، لكن الأداء الجميل لفريق التمثيل، خاصة كاري موليغان ورالف فاينس، يستمر بأسر المشاهد وبرصد الروح الإنسانية في سعيها إلى تحدي الفناء. 

تتبدى أهمية هذا العمل كونه ينصف مهنة علم الآثار التي غالباً ما يتم تنميط محترفيها في السينما والإعلام كصائدي كنوز وباحثين عن الربح المادي. وعلى العكس من ذلك، يمثل بازيل براون روح الباحث عن المعرفة التي تمنح الحكمة والراحة. وكما يظهر فريق التنقيب كمجموعة محترفة يدفعها العلم إلى العمل، وليس الرغبة في جني الثروة. 

من ناحية أخرى، أثار اختيار الممثلة كاري موليغان لأداء دور السيدة إيديث بريتي جدلاً كبيراً. فكاري موليغان تم تقديمها في الثلاثينات من عمرها، على خلاف الواقع، حيث بلغت السيدة بريتي الخمسينات من العمر. تسبب هذا الجدل بلوم فريق العمل بالتمييز ضد النساء الأكبر سناً، وعدم منح الممثلات في عقدهن الخامس أدواراً جيدة في السينما. ففي هوليود، كثيراً ما يتم تهميش الممثلات المتقدمات في العمر لصالح نساء أصغر عمراً، حتى لو كان شركاؤهن في الدور رجالاً كباراً في السن. هذا التغييب للممثلات الأكبر سناً، غالباً ما يحرم سيدات قديرات من الاستمرار في عملهن ويعرضهن للتهميش.  

سينما ودراما
التحديثات الحية

في المقابل، أخذ الكثيرون على العمل عدم دقته التاريخية، إذ تظهر باحثة الآثار المعروفة، مارغريت غيدو، والملقبة بـ بيغي بيغوت، كسيدة شابة متلعثمة ذات شخصية ضعيفة. فعند وصول بيغي بيغوت إلى موقع التنقيب، يعاملها المشرف الجديد على المشروع بتعال، ويخبرها أن اختياره لها لم يكن لمهارتها العلمية، بل لحجمها الصغير الذي يسهّل الحفريات من دون التسبب بأذى للآثار.

تقديم هذا الحدث بشكله السينمائي، يشير إلى التمييز ضد النساء، ويعرض بعضاً من الإساءات التي يتعرضن لها. إذن، على عكس الادعاء بعدم الدقة التاريخية، يعالج الفيلم شكلاً من أشكال التمييز ضد النساء في بيئة العمل. ومن اللافت أن كاتب الرواية، جون بريستون، قد تناول في حقيقة الأمر قصة عمته بيغي بيغوت الواقعية، وقدمها بشكل روائي ليخلد مسيرتها المميزة في مهنة التنقيب عن الآثار. بالإضافة إلى ذلك، يستعرض العمل صراعاً طبقياً يتمثل بسعي بازيل براون فرض ذاته ضمن منظومة هرمية تلغي الأضعف وتهمش من هم في أدنى السلم الاجتماعي.  

بعد نجاح فريق التنقيب بالكشف عن آثار هامة تنتمي للحقبة الأنغلوسكسونية وليس للفايكنغ، كما كان متوقعاً، يتبين أن العصور المظلمة لم تكن عصوراً من دون حضارة، كما يزعم كثيرون. فالعملات النقدية والحلي وطقوس الدفن المكتشفة، أكدت أن العصور المظلمة كانت تتميز بحضارة معقدة.

لكن نجاح الفريق في عمله، لا يلغي خطر الحرب المحدق الذي يتبدى بشعرية عالية في لقطة سقوط إحدى الطائرات البريطانية وتحطمها وموت قائدها غرقاً في النهر. هذا الواقع الأسود يتحداه شخوص الفيلم بانتزاع لحظات أخيرة من حب محرّم، كما في قصة بيغي بيغوت وابن عم السيدة بريتي، اللذين يدركان أن الحب، كما الآثار التي نتركها خلفنا، هو قوة لتحدي الموت والفناء. يحملنا فيلم The Dig للتفكير بقيم كبرى ترتبط بمعنى وجودنا وبحاجتنا للآخر الذي نتشارك معه إرثاً من الذكريات تحمينا من النسيان.

المساهمون