استمع إلى الملخص
- يعكس "آخر يوم" سياسات السلطة في مصر، بينما يُظهر "البساتين" مشروع مدينة حديثة في دمشق باستخدام تقنية الأبعاد الثلاثية، مما يثير تساؤلات حول التشابه بين الهدم في البلدان العربية.
- يُنتقد "آخر يوم" لركاكته البصرية، بينما يُبرز "البساتين" رحلة بصرية مع التركيز على الدراما في مدينة مُدمَّرة.
يحدث أنْ يُعرض فيلمان قصيران عربيان في برنامج واحد (Forum Expanded)، في الدورة الـ75 (13 ـ 23 فبراير/شباط 2025) لـ"مهرجان برلين السينمائي"، يتضمّن أربعة أفلام، يُعرض العربيان بينها في نهايته: "آخر يوم" (2024، 5 دقائق) للمصري محمود إبراهيم، و"البساتين" (2025، 23 دقيقة) لأنطوان شابون (مُقيم في باريس، ودارس اللغة العربية في جامعة القديس يوسف في بيروت، متخرّجاً منها عام 2019). الفيلمان عربيان، مع أنّ إنتاج "البساتين" فرنسيٌّ، فمادته الأساسية سورية، وشبابه الأربعة سوريون.
المشترك بينهما كامنٌ في هدم منازل، وإنْ تكن الأسباب مختلفة، وخلفياتها أيضاً، كما المسارات الآيلة إليه (الهدم). فالمصري يعاين مواربةً حالتي هدمٍ حاصلتين في كفر الدوّار (القاهرة) وحيّ الشيخ جرّاح (القدس المحتلّة) مطلع عام 2022، بينما يهتمّ الفرنسي بمنطقة بساتين الرازي في دمشق، بعد هدمها (2015) في البدايات الأولى للثورة السورية، المدنية والسلمية والعفوية (2011). هدم منازل مصريين في القاهرة متأتٍ من سياسات سلطةٍ حاكمة، تدّعي تطويراً للمدينة، بينما تعمل على تغييب معالمها لصالح مدينة أخرى، ربما تكون نقيضاً لها، كما يحصل في بساتين الرازي تماماً، إذْ يُروَّج، لإخفاء قتل وتدمير أسديّين، لمشروع مدينةٍ حديثة وعصرية، تتناقض بدورها مع المدينة الأصل، والمشروع هذا تصنعه تقنية الأبعاد الثلاثية، التي يُتقنها شبّان وشابات سوريون، لن تظهر وجوههم أبداً أمام الكاميرا (جولييت بارّا).
الهدم الإسرائيلي، المترافق مع طرد سكّان أصليين بالقوّة و"القانون"، يكاد يتساوى مع الهدم المصري المترافق، بدوره، مع طرد سكّان ربما يكونون أصليين، أي أبناء المنطقة وبناتها المولودين فيها ضمن مسار تاريخي مديد. مع الهدمين، هناك حربٌ أسدية، تُغيّر معالم جغرافيّة بقتل ناس البلد/المدينة وتهجيرهم وتغييبهم، وإلغاء أمكنة وعمارات. هذا يطرح سؤالاً غير نقديّ: أمقصودٌ عرض الفيلمين، أحدهما تلو الآخر، للقول علناً إنّ الهدم واحدٌ ومتشابه، إنْ يكن إسرائيلياً أو مصرياً أو سورياً/أسدياً؟ أمْ أنّ القصد كامنٌ في أنّ عرض الفيلمين العربيّين في برنامج واحد يعكس شيئاً من خراب بلدان وقهر ناسها، علماً أنّ الفيلمين الآخرين، "بوابات" (2025، 16 دقيقة) للإسبانية الفنزويلية إلينا دوكي و"مدينة الصفيح" (2024، 20 دقيقة) للأيرلندي فِرغل وارد، يهتمّان بدورهما بمدن وطبيعة حولها تختفي، وأحدهما (مدينة الصفيح) يخترع مدينة، ليستعيد تاريخاً نضالياً في أيرلندا الشمالية، ودور الألمان الغربيين (وبريطانيا طبعاً) حينها؟
هناك تفاعل عاديّ مع الأفلام الأربعة، يُعلنه مشاهدو هذا البرنامج ومشاهداته بهدوء. فهل المتابعة الألمانية ـ الأجنبية لأحوال فلسطين المحتلّة وسورية الأسد ومصر العسكر محصورة بنشرات تلفزيونية، والفيلمان هذان (كأفلامٍ أخرى في دورات سابقة، أو في عروضٍ تجارية إنْ تكن هناك عروضٌ تجارية ألمانية لأفلامٍ عربية، تعكس رأياً أصدق وأعمق وأكثر إثارة لنقاش وتساؤل) يمنحان الغربيّ الأجنبيّ فرصةً لتنبّه، ولو مؤقّت (على ألاّ يكون التنبّه عابراً وسريعاً)، إلى حاصلٍ في بلدان عربية؟
هذا غير حاجبٍ نقداً. "آخر يوم" ركيك في اشتغاله البصريّ وأدائه التمثيلي، مع اعتماده على مكانٍ واحد ضيق، وزمن درامي غير طويل. الشقيقان زياد ومودي (زياد رضا ومحمد محمود) يوضّبان أثاث شقّة عادية في منطقة شعبية، لأنّ قراراً رسمياً يقضي بهدم العمارة لتوسيع الطرقات. يُعرف هذا بفضل نشرة أخبار لمذيعة تسرد وقائع المشروع، قبل أنْ تسأل مراسل الإذاعة عن آخر تطوّرات الهدم الإسرائيلي (مستوطنون أساساً، بحماية الجيش الإسرائيلي كالعادة) في حيّ الشيخ جراح بالقدس المحتلة، وطرد ناسه منه. "البساتين" يرافق أربعة شباب سوريين في رحلة بين الأبعاد الثلاثية وخرائط منطقة بساتين الرازي ومحيطها، مع صُور قليلة واشتغالات كثيرة على أجهزة الكمبويتر، واستعادة ذكريات بأصوات أناسٍ غير ظاهرين (لعلّها أصوات الشباب الأربعة). اللعبة البصرية عادية (لا تظهر وجوه الشباب الأربعة أمام كاميرا بارّا، المُكتفية بتصويرهم/هنّ من الوراء، ولا ظهور لأصحاب الأصوات التي تروي حكايات من ماضٍ وراهنٍ)، وأسلوب الاشتغال أقرب إلى الوثائقي.
لا كلام بين الشقيقين المصريين، بينما الكلام كلّه للسوريين الأربعة، الذين يجهدون في أعمال التصاميم والخرائط وهندسة العمارة بما يمتلكون من تقنيات حديثة، من دون إغفال النواة الدرامية الجوهرية: هناك مدينة مُدمَّرة، بهدف إنشاء مدينة أخرى على أنقاضها.
"آخر يوم" مُكتفٍ بتكثيفٍ درامي ـ بصري، ينتهي بهدم منزلٍ يُفترض به أنْ يكون مصرياً، أو لعلّه فلسطينيّ، فالمشترك متمثّل بتزامن هدم المنازل في القاهرة والقدس المحتلة. بينما ينتهي "البساتين" بمشروع إعماريّ حداثوي، غريبٍ عن مدينة "جميلة" كما يُسمع بصوت أحدهم/إحداهنّ (شابان وشابتان)، لن تُشبه الأصل أبداً.