استمع إلى الملخص
- "عيش الأرض" يقدم سردًا لحياة قرية صينية عام 1991، بينما "حليب ساخن" يركز على علاقة أم وابنتها في بلدة يونانية، مع التركيز على تأثير السلطة والمجتمع.
- الموت يلعب دورًا محوريًا في الفيلمين، حيث يؤثر على الشخصيات من خلال حوادث غير متوقعة أو ضغوط نفسية.
أول فيلمين يُعرضان للصحافة والنقد السينمائيّين، من أفلام المسابقة الرسمية للدورة الـ75 (13 ـ 23 فبراير/شباط 2025) لـ"مهرجان برلين السينمائي (برليناله)"، يبحثان، بصرياً وأخلاقياً وجمالياً، في أحوال المرأة، شابّة أو عجوزاً، وفي مصائب تحلّ بها وتحوّل عيشها إلى خرابٍ، نفسيّ أساساً، وفي المدى المُتاح لها، معنوياً وانفعالياً واجتماعياً، لمواجهة الآخر، والآخر أوّلاً رجلٌ يتحكّم، أو يختفي، أو يتنصّل، والتنصّل قاهرٌ كالاختفاء والتحكّم.
"عيش الأرض" (ترجمة حرفية للعنوان الإنكليزي Living the Land) للصيني هيو مينغ، و"حليب ساخن (Hot Milk)" للإنكليزية ريبيكا لنْكِوَيتش، يكشفان قهراً تعانيه المرأة، من دون مبالغة في كشفٍ كهذا، بقدر ما في الكشف السينمائي، وهذا أساسيّ في إنجازهما، من تفكيك بُنى متنوّعة تُشكّل مجتمعاً وبيئة، وتصنع أفراداً بفضل سلوك وتربية. كشف القسوة قاسٍ أيضاً، فالقسوة الشديدة غائصة في هذين المجتمع والبيئة، إنّ تكن (القسوة) نتاج سلطةٍ قامعة، سياسية أو حزبية أو اجتماعية (عيش الأرض)، أو حصيلة تراكمات كذب وخداع ومواربة وخيبات (حليب ساخن).
لكنّ قسوة العيش غير مختَزلةٍ بمعاناة المرأة، فللرجل حصّة من قهر وخضوع وعجزٍ، كما من نفور وابتعاد، ومن مسؤوليةٍ غير راغبٍ فيها، أو كارهٍ لها، وإنْ يظهر هذا كلّه مواربةً. ففي "عيش الأرض"، يتّضح تدريجياً أنّ السلطة الحاكمة تمارس شيئاً من نزوة التسلّط، عبر سلوك وتربية يحولان دون امتلاك حدٍّ معقول من حرية وتواصل و"عيش". وفي "حليب ساخن"، رغم الاحتيال الذي تمارسه المرأة (الأم/الزوجة/المُطلّقة) لتحصين نفسها من غدر زمن أو فرد، يُعاني الرجل خفية، فحضوره نادر، واختفاؤه (الأب/الزوج/المُطلّق) سببٌ لقسوة المرأة (أم، ابنة)، وفي الوقت نفسه نتيجة معاناة المرأة مع نفسها، وفي ذاتها أساساً.
"العائلة" الصينية (عيش الأرض) كبيرة بأفرادها الأقرباء والمحيطين/المحيطات بهم/بهنّ. موت عجوزٍ يفتتح نصّاً (هيو مينغ) مُشبعاً بآلام وخيبات وقهرٍ وتشتّت، ومحاولات دائمة لاكتساب لحظات هدوء وسكينة، غير ناجحة (المحاولات). في 132 دقيقة، يتّسم الإيقاع الإخراجي بسرد بصري هادئ لحكايات متداخلة مع يوميات بائسة، في قرية ريفية، عام 1991. موتٌ يؤدّي إلى انكشاف تدريجي لأحوال، بعضها غير ظاهرٍ في القرية. أناس يشتغلون في الأراضي، ويلتقون ممثلي السلطة، ويدخّنون كثيراً، وبعضهم يحتسي خمرةً حتى السُكْر. أطفال ومراهقون/مراهقات يتعلّمون في مدرسةٍ، يُغرم أحد أساتذتها بخالة صبيّ، يتركه والداه في البلدة الريفية تلك.
هذا مختلفٌ عن مناخ "حليب ساخن" (سيناريو ريبيكا لنْكِوَيتش): أمٌّ وابنتها في بلدة ساحلية يونانية، تنغلق كلّ واحدة منهما على نفسها، فالأسرار تبدو متراكمة، والانكشاف يحتاج إلى ضغوطٍ حادّة لتفجير المخبّأ في الذات. روز (فيونا شاو) أمٌّ مُقْعدة، وابنتها صوفيا (إيما ماكّاي) تبدو سليمة، لكنّها تعيش انهياراً روحياً ونفسياً بطيئاً، فكل ما يُحيط بها يصنع ضغوطاً إضافية. تسلّط روز على الابنة قاسٍ وقاهِر، فهي نفسها تعاني قسوة وقهراً، تحتدّ في مواجهتهما، أي في مواجهة ذاتها، لكشف المستور، والتصالح مع تلك الذات أساساً.
الرجل مُختَزلٌ بمُعالِج (نفسي فيزيولوجي) يُدعى غوميز (فنسنت بيريز)، يجهد في إنقاذ روز من غرقها في بؤرة تخشى الخروج منها، أو ترفضه. صوفيا تائهة، ولقاؤها إنغريد (فيكي كريبس) مُثير لتوتّرات وتبدّلات رغم أنّه (اللقاء) تأسيسٌ لعلاقة حبّ بينهما، غير سويةٍ البتّة. حبٌّ كهذا غير حاضر في "عيش الأرض"، فالبيئة تُحرِّمه، والسلطة تنبذه، والحمل غير الشرعي يؤدّي بالشابة المُغرَمة بالأستاذ إلى إجهاض الجنين بالقوة. بؤسٌ يسيطر على كثيرين وكثيرات، كذاك البؤس المسيطر على روز وصوفيا، وعلى إنغريد أيضاً، التي تروي حكايتها بكلمات قليلة، كأنّها (إنغريد) مرآة خفيّة لصوفيا، التي تنتبه إلى تفاصيل تجعلها تُخضع روز لامتحانٍ عسير.
الموت مشترك بين فيلمي هيو مينغ وريبيكا لنْكِوَيتش: في "عيش الأرض"، يحضر الموت (أفرادٌ عديدون) مباشرة، بسبب شيخوخة أو إثر حادثٍ غير متوقّع (بحث السلطة عن النفط في أراضي البلدة الريفية يُسبِّب انفجاراً في مُراهق "معتوه"، لإصابته بخلل عقلي). أمّا في "حليب ساخن"، فغائبٌ لوقوعه في أوقاتٍ سابقة، ولكونه أبرز مُحرّك للانغلاق والقسوة والارتباك والتوهان. موتٌ يُصيب أناساً، كما يقتات من أرواح مرتبكة وضائعة وسط دوّامات كثيرة، تُضفي على العيش اليوميّ ثقلاً مُتعباً، كأنْ لا خلاص منه (الثقل).
فالموت المباشر قدرٌ مفروض. أمّا الموت الآخر، أي قتل النفس والروح والانفعال، فنتاج تصرّفات بشرية، لعلّها (التصرّفات) متأتية من خلل في تلك النفس والروح، وفي ذاك الانفعال. التقاطه في "عيش الأرض" (تصوير غيو دامينغ) مترافق وكادرات (صغيرة وكبيرة) لطبيعةٍ عاصفةٍ أحياناً، ومُشمسة أحياناً أخرى. بينما تبيانه في "حليب ساخن" (تصوير كريستوفر بلوفِلت) منسجم وذاك الانكسار الرهيب الذي تعانيه روز وصوفيا وإنغريد (أتكون إنغريد خيالاً في ذهن صوفيا، الباحثة عن خلاصٍ؟).