فيلمان أفريقيان في خريبكة: غلبة التوثيق في معاينة أحوال وحالات

فيلمان أفريقيان في خريبكة: غلبة التوثيق في معاينة أحوال وحالات

29 يونيو 2022
"المشي على المياه": وثائقي مؤلم (الملف الصحافي)
+ الخط -

 

ماذا يجري في الصحراء الكبرى؟

تتحدّث عناوين وسائل الإعلام عن تمدّد الإرهاب، وجفاف ساحق يهرب منه الرجال إلى محيط سبتة للهجرة إلى إسبانيا، بينما يبقى الأطفال والنساء هناك، شمالي النيجر، يدفعون الثمن. ساكنة، إحدى أولئك النساء. لا رجال بين 20 و50 عاماً. مزّق الترحال الدائم حياة الأسر. عَكَس حالُ المدرسة هشاشة حضور الدولة. تنعدم الحاجات الأولية للبقاء على قيد الحياة. جوع ومرض. هناك شكّ في أنْ تُفيد الأعشاب الطبية من يعاني سوء التغذية، ونقصها.

في "رحلة من أجل الماء" (2021)، كترجمة غير حرفية للعنوان الفرنسي Marcher Sur L’eau (المشي على المياه)، للمخرجة الفرنسية آيسا مايْغا (المولودة في داكار ـ السنغال) ـ المُشارك في مسابقة الأفلام الوثائقية، في الدورة الـ22 (28 مايو/أيار ـ 4 يونيو/حزيران 2022) لـ"المهرجان الدولي للسينما الأفريقية بخريبكة" (المغرب) ـ رحلات لجلب الماء في صحراء النيجر. رحلات يومية طويلة إلى بئرٍ، يبعد 10 كلم.

هذا وثائقي مؤلم من أفريقيا: نساء يبحثن عن الماء. كهول مُنهكون، يبحثون عن مراعٍ للماشية، ويطاردون الحشائش في مناطق يهطل المطر فيها شهرين في العام، والباقي جفاف. طفلة حافية تستحمّ بلتر ماء. كتل هوائية، ودرجات حرارة مرتفعة للغاية، تجعل الحياة جحيماً في تلك الصحراء. هذا كلّه يتسبّب في إنهاك بدني للأطفال. لذلك، صارت المدرسة تعمل ليلاً، من دون كهرباء. صار المعلّم والتلاميذ يُلصقون مصابيح فوق جباههم، كعمّال المناجم، لأنّ النهار بالكاد يكفي لجلب الماء. في هذا الخراب، توفّر المدرسة إضاءة ذاتية، ورؤوساً منيرة. هذه استعارة دالّة.

يمرّ الزمن، وتتعمّق الأزمة. مطلوبٌ علفٌ للماشية، كي لا تموت. الدولة ضعيفة، ووجودها هشّ. يحضر شيخ قبيلة لإيصال رسالة إلى العاصمة البعيدة جداً، والصمّاء.

جديدُ الفيلم أنّ الكاميرا (رُسْلان ديون) تؤدّي دوراً في مصير السكان. جاءت مايْغا، ومعها جمعية خيرية. غيّر التصوير حياة الناس. بفضل الكاميرا، جاءت جمعية، وحَفَرت بئراً، غيّرت المنطقة. المحتاجون، الذين لا تصلهم الكاميرات، لا ينالون مساعدة. يستمرّ بؤسهم في أفريقيا.

هذا فيلم كثيف. حكاية مُشبعة بالأمل والحياة، لأنّ السوداوية ترعب الجمهور. فيلم مليء بصُوَر سينمائية، عن حياة الرُحّل في الصحراء الكبرى. فيافي صفراء في لقطات عام، ولقطات وجوه أطفال، عيونهم جاحظة، وجباههم بارزة. كاميرا في مواجهة اللامتناهي الكبر واللامتناهي الصغر، يجمعهما مونتاج (إيزابيل دوفِنْك وليندا أتاب أبنِفِن) جدلي، تتوالى فيه اللقطات بالتناوب، بين المتناهي الكبر والمتناهي الصغر. تستخدم آيسا مايْغا كاميرا محمولة في طائرة "درون"، تُحلّق للحصول على مسافة كبيرة بين الكاميرا، وما تُصوّره.

هكذا تكشف الكاميرا صغر حجم الإنسان كنملة، في مقابل لا نهائية الصحراء. يشعر المُشاهد بالرعب من هذه الفوارق. لكنْ، للإنسان سلاح أقوى يحميه من الفناء: المدرسة والآلة لهزم الطبيعة. بفضل الآلة، خرج الماء من قاع الأرض، بعد توقّفه عن الهطول من السماء.

هذا وضع نساء النيجر في مواجهة حاضرهنّ، وهذا أقلّ خطراً من حال نساء كينيا، اللواتي يواجهن خطراً أشدّ في "الرسالة" (The Letter, 2020) لكريس كينغ ومايا لوكاو: يتسكّع شابٌ مديني من كينيا على صفحات فيسبوك، فيصادف صُوراً وخبراً عن امرأة شريرة. يبحث، فيكتشف أنّ تلك المرأة، سيئة السمعة، هي جدّته. يسافر من مومباسا الشاطئية إلى قرية بعيدة في خطّ الاستواء، للتحقيق في سبب اتهام جدّته، البالغة 94 عاماً، بسوء السمعة.

 

 

حقّق "الرسالة" نجاحاً دولياً. إنّه يُصوّر واقعة من عمق أفريقيا، في 81 دقيقة. يُصوّر صعوبة الحياة في بيئة قاسية. هنا، يصير كلّ فمٍ مشكلة. يُفَسّر البؤس الاقتصادي بالسحر والشعوذة. تدخّل الكاهن الأنغليكاني ليحرّر أجساد المُسنّين من الشرّ. يُردّد الكاهن: "الله نور، الله نور". يضيف: "صغيراً، كنتُ أتصوّر الله مثل جدّي". هكذا يحاول الكاهن حماية المُسنّين، مُنتبهاً إلى الذهنية السائدة في المنطقة البعيدة عن الحضارة.

منذ انتشار المسيحية والإسلام في المنطقة، صار يُنظر إلى تهديد حياة المُسنّين بأنّه فعلٌ شيطاني. تراجع التهديد في المناطق المتمدّنة، لكنّه بقي يعمل في المناطق النائية. لاحتواء الوضع، بُني ملجأ خاص بالمُسنّين، لحمايتهم من القتل. من هذا الملجأ، قدّم كريس كينغ ومايا لوكاو كتالوغاً من الوجوه المرعوبة والشاحبة واليائسة. ترفض الجدّة مغادرة بيتها للاحتماء في ملجأ المُسنّين، رغم شعورها بالتهديد.

تُروّج فكرة أنّ سببَ المصائب روحٌ شريرة، تسكن كبار السنّ. صار الأطفال يتحلّقون حول التلفزيون، أو الهاتف. لم يعودوا يتحلّقون حول الجدّة، لتحكي لهم حكايات.

الرسالة الفيسبوكية فيلمٌ، يمسك سوسيولوجيا واقعه. حيث يقلّ الطعام، يصير الأكبر سنّاً عبئاً اقتصادياً. لتسهيل الأمر، يُقدّم مُبرّر سحري للتخلص من الأفواه التي يجب إطعامها. القتل بسبب السحر مُبرّر.

هذا الفيلم ثمرة تَقَصٍ وتحديق في الواقع، لا ثمرة تأمّل وعصف ذهني. لذلك، تُدرج المعلومات الموثّقة عن المنطقة النائية في تسلسل سرديّ، لتشويق المتلقّي. سردياً، هناك متابعة لـ"كيف كان الوضع" ولـ"كيف أصبح". لا تُدعى العجوز إلى حفلات الزفاف، لأنّ وجودها يُسبّب الشرّ والفأل السيئ.

"الرسالة" مثالٌ لقدرة الفيلم الوثائقي على تقديم صورة عن الواقع، وعلى التقاط الراهنية، وطزاجة الحياة، وجمالية اللحظة. تقديم وجهة نظر موثّقة، تُوسّع حقل الوعي.

صور كريس كينغ ومايا لوكاو حوارات عفوية طويلة، تنبش في أعماق الشخصيات، لبلوغ حقيقتها. ظهر أنّ التعليم يحاصر الشعوذة والبؤس. بقياس الوقت الذي يمرّ، يلتقط كينغ ولوكاو التحوّل والتبدّل اللذين يحدثان في وعي سكان المنطقة. في لحظة اعترافٍ، تُدعى العجوز إلى حفل زفاف. تغيّرت وجهة نظر الشخصيات التي صوّرها "الرسالة".

تُقتل العجائز، لأنهنّ ساحرات في كينيا. تُشَغّل الفتيات بنقل الماء، لأنهنّ لم تُهاجرن بعد. يُفترض بتصوير هذه المصائب أنْ تُسلِّط الضوء على وضع النساء، لتغيير وضعهن إلى الأفضل.

المساهمون