فوتوغرافيا ستيف ماكوري: العالم في عيون شاردة

فوتوغرافيا ستيف ماكوري: العالم في عيون شاردة

25 مايو 2021
نشعر دائماً بأنّ هناك حكايةً ما تقف خلف تلك (Getty)
+ الخط -

في أضخم معرض بلجيكي يُنظّم له على الإطلاق، احتفت مدينة أنتويرب الفلمنكية، ببلجيكا، أخيراً، تحت عنوان "عالم ستيف ماكوري" The World of Steve McCurry، بأشهر مصوّر أميركي في عالم الصحافة الوثائقية، خلال العقود الأربعة الأخيرة، ليتمكّن زوار المعرض الذي استضافته قاعة Waagnatie الفنّية الضخمة، من مشاهدة أكثر من 200 صورة كبيرة الحجم، سجّلتها عدسة ماكوري في جنبات الأرض المختلفة، سارداً من خلالها رحلته الثرية على مدى 40 عاماً، في عالم التصوير الوثائقي وفنّ البورتريه.

لا يملك ستيف ماكوري بوصلة معيّنة تقرّر تنقّلاته بين الشّعوب. حتى أنّ المدقّق في مسيرته الحافلة، سيشعر باستمرارية هذه الاندهاشة الأولى التي تنتاب العين حين تقع على واحدة من صوره، كأنّها عثرت على شيء "خاص" أو "ثمين"، شيء يستدعي من العين هذه الوقفة كي تتأمّل المشهد جيداً، محاولة الغوص عميقاً في الوجوه، التي مهما اختلفت ملامحها أو ألوانها، تبقى معاناتها الإنسانية هي نفسها في كلّ وقت أو مكان. نستطيع رؤية حطام الحرب في نظرة جندي مصاب، من دون أن نتساءل عن جنسيته، فاللحظة التي توثّقها العدسة شاءت أن نرى بشاعة الحرب، لا أن نتساءل عن جنسية الجندي.

سيخالجنا الشعور ذاته ونحن ننتقل بين صور ماكوري المختلفة الأحجام والحمولات النفسية المتباينة، من نزاعات عسكرية وحروب مدمّرة أخرى، من بينها الحرب الأهلية اللبنانية وحرب الخليج، إلى صوره التي توثّق الحياة في ساحات كوبا الشيوعية، ومنها إلى رأسمالية الولايات المتحدة المدمَّرة يوم 11 سبتمبر/ أيلول 2001، ومن أقنعة البرازيل وديكتاتوريات أميركا اللاتينية، إلى كنائس وأديرة إيطاليا العتيقة... كلّ هذا على خلفية صوت ستيف ماكوري نفسه، الذي يقود زوار المعرض ليسرد لهم قصص صوره الشهيرة والحكايات التي تقف خلفها. وهي مواد صوتية أغلبها سبق توثيقه كتابة في إصدار ماكوري السابق Steve McCurry Untold: The Stories Behind the Photographys، والصادر عام 2013، وفيه أضاء ماكوري على 14 مشروعاً مهماً من حياته المهنية.

سوشيال ميديا
التحديثات الحية

موناليزا بيشاور
هنا، لن نعدم الوقوف مطولاً أمام بعض من أشهر صور ماكوري الفوتوغرافية، التي تحوّلت، مع الوقت، إلى أيقونات في تاريخ التصوير الصحافي وفنّ البورتريه، وعلى رأسها صورته الشهيرة للاجئة الأفغانية شربات جولا Sharbat Gula، التي صوّرها ماكوري في مخيم للاجئين الأفغان في بيشاور عام 1984، وكانت الغلاف "الأكثر شعبية" في تاريخ أغلفة مجلة "ناشيونال جيوغرافيك"، حتى أطلق عليها البعض "موناليزا التصوير الفوتوغرافي" في القرن العشرين.

التقط ستيف ماكوري صورة جولا، وهي طفلة لا يزيد عمرها عن 12 عاماً، لكنّها تحوّلت، بفضل هذه الصورة، إلى رمز لمعاناة اللاجئين حول العالم، وهي الصورة ذاتها، إلى جوار غيرها من الأعمال التي تحوّلت إلى أيقونات فوتوغرافية لا تخطئها عين، التي أهّلت ماكوري ليحصل على أكثر الجوائز المرموقة في التصوير الصحافي، بما في ذلك ميدالية روبرت كابا Robert Capa الذهبية، وجائزة World Press Photo التي نالها ماكوري أربع مرّات، وفي عام 2019 تم وضع اسمه ضمن قائمة مشاهير التصوير الفوتوغرافي الدولية، كما منحته الجمعية الملكية للتصوير الفوتوغرافي في لندن "ميدالية المئوية" لكامل إنجازه أخيراً.

قد نستشعر في بعض صوره شيئاً من الافتعال أو الإعداد المسبق

تأخذنا صور ستيف ماكوري، تلك الغنيّة بالألوان، كما بالعيون المتسائلة في شرود لا نهاية له، في رحلة تبدأ من ثمانينيات القرن الماضي، وتحديداً من جبال أفغانستان وخيام سكّانه وأسلحة مقاتليه ضد الاحتلال السوفييتي، لتعبر بنا إلى قرى باكستان والهند، بدروبهما الضيّقة وشوارعهما المزدحمة، ومن جنوب شرق آسيا نصل إلى أدغال وصحارى أفريقيا؛ فالمصور الرّحالة لا يبقى في مكان، ولا يطيب له البقاء في بلد، بل ينتقل من هنا إلى هناك، متتبّعاً مهامه كمصوّر لدى "ناشيونال جيوغرافيك" ووكالة Magnum العالمية للصور، خفيفاً، لا يحمل سوى كاميراته، وولعه الخاص، ليس بالوجوه، بل بما وراءها.

ربما يكمن هنا تحديداً سرّ السحر الغريب لأعمال ماكوري الفوتوغرافية: ما وراء الوجوه، ما من مرّة نرى فيها واحدة من صور ستيف ماكوري، إلّا ونشعر بأنّ هناك حكايةً ما تقف خلفها، ولا بدّ لها من أن تُحكى، خصوصًا إذا ما غصنا عميقاً في نظرات عيون الشخصيات. لكلّ صورة عنده حكاية، كما لكلّ عين نظرتها، على الرغم من لمسة "الصنعة" أو "الافتعال" التي نستشعرها أحياناً في صوره، خصوصاً الجديد منها، لكنّ هذا لا يمنع قدرة ماكوري غير المحدودة على إدهاش أعيننا بما هو جديد ولافت دائماً، ولنسمّها لحظة "القنص" اللحظة التي ستخلّدها عدسته في صورة، وتبقى على ما هي عليه، إلى الأبد.
في حياته المهنية التي دامت 40 عاماً، التقط ستيف ماكوري صوراً لا تُنسى في قارات الأرض المختلفة، وكان من أوائل المصوّرين الذين لمعت أسماؤهم في مجال التصوير الصحافي الوثائقي، وتأريخ الحضارات القديمة والثقافات المهددة بالانقراض.

تأخذنا صور ستيف ماكوري، تلك الغنيّة بالألوان، كما بالعيون المتسائلة في شرود لا نهاية له، في رحلة تبدأ من ثمانينيات القرن الماضي

نشر ستيف ماكوري كتابه المصوّر عن الهند في نهاية عام 2015، وفيه يحكي قصة عشقه الكبير لهذا البلد العريق ثقافياً وحضارياً، والذي سافر إليه أوّل مرة في بداية ثمانينيات القرن الماضي، مخطّطاً البقاء هناك ستّة أو سبعة أسابيع على أبعد تقدير، لكنّه بقي عالقاً في غرام الهند عامين كاملين، قبل أن يغادرها إلى باكستان، ثم متسللاً عبر الحدود الباكستانية إلى أفغانستان، لينجح ماكوري في تصوير معارك الأفغان ضد الجيش السوفييتي، بعدما نجح في إخفاء عشرات من أفلام النيغاتيف الخام في ملابسه.

صور ظهرت لاحقاً على صفحات مجلة "تايم" الأميركية عام 1980، وجعلت من اسم ماكوري أحد ألمع مصوري الحروب والنزاعات المسلحة، ليسجل بعدها أهوال الحرب العراقية - الإيرانية، وحرب لبنان الأهلية، والحرب الكمبودية، وقتال الإسلاميين في الفيليبين، وحرب الخليج، نهاية بالاحتلال الأميركي للعراق.

إعلام وحريات
التحديثات الحية

تأمّل العزلة
كأميركي، لم يستطع ماكوري منع نفسه من توثيق أحداث الحادي عشر من سبتمبر عام 2001. يحكي بصوته القادم إلينا عبر السماعات الداخلية في قاعة العرض ملابسات تسجيله السريع لهذه الأحداث، قائلاً: "رأيت من سطح منزلي في نيويورك كيف انهار برجا التجارة التوأمان في 11 سبتمبر 2001. كنت قد عدت من الصين في الليلة السابقة، وفجأة رأيت الأبراج تحترق، وفي اللحظة التي انهار فيها البرج الأول، أصبح الأمر سوريالياً تماماً، كنت أرتجف على السطح خلف الكاميرا وأنا ألتقط الصور كالمجنون، حتى انهار البرج الثاني أمام عينيّ، وأدركت أنّ عليّ النزول لالتقاط صور الكارثة، حينها شعرت بالعجز التام، فلم يكن في إمكاني فعل أيّ شيء، باستثناء التصوير".

صور ظهرت على صفحات مجلة "تايم" الأميركية عام 1980، جعلت من اسم ماكوري أحد ألمع مصوري الحروب والنزاعات المسلحة، ليسجل بعدها أهوال الحرب العراقية - الإيرانية، وحرب لبنان الأهلية، والحرب الكمبودية، وقتال الإسلاميين في الفيليبين، وحرب الخليج، نهاية بالاحتلال الأميركي للعراق

إضافة إلى المواد الأرشيفية من أفلام ووثائقيات وحوارات مع ماكوري، يضم المعرض عدداً من الإصدارات المصورة التي احتفت بصوره ورحلاته، ومن بينها كتابه الضخم Shadow of Mountains، الصادر عام 2007، والذي يعود ماكوري فيه من جديد إلى أفغانستان، ولكن هذه المرّة في ظل أنظمة حكم مختلفة واضطرابات أمنية مغايرة لفترة الجهاد في الثمانينيات، مقدماً لكلّ صورة بنص موجز يشرح فيه الخلفية الجغرافية والتاريخية لالتقاطها.

كذلك، نجد أعمالًا فوتوغرافية جديدة ضمن مشروع ستيف ماكوري الأحدث On reading، والذي أصدر بعضاً من صوره ضمن كتاب لافت عام 2016، وفيه يجمع ماكوري مواد فوتوغرافية من عقود سابقة وأنحاء مختلفة من العالم حول موضوع "القراءة"، وكأنّ المصور الذي وثّق العديد من النزاعات المسلحة والحروب، أراد أن يمنح نفسه فرصة للابتعاد عن ضجيج القتل وأشلاء الجثث، ليريح شيخوخته (71 عاماً)، متأمّلاً الناس وهم في لحظات انعزالهم التام مع الكلمات.

المساهمون