استمع إلى الملخص
- تميزت السينما الوثائقية المغربية بفضل الأصوات النسائية، لكنها تحتاج إلى إصلاح نظام الدعم، حيث أن العديد من الأفلام المنتجة لم تكن متجذرة في قضايا السينما.
- الأفلام الروائية المغربية تحاول دمج سينما النوع مع الوقائع الاجتماعية، لكن تحتاج إلى هيكلة أفضل للمنظومة السينمائية لتحقيق مصالحة مع الجمهور.
رغم المعوقات الهيكلية، المتمثّلة أساساً بغياب سوق داخلية بحجمٍ يكفي لتحقيق دورة اقتصادية فاضلة، وقصور الثقافة السينفيلية لدى الجمهور، اتّسمت السينما المغربية، في الألفية الحالية، بديناميكية حقيقية على مستوى الإنتاج، أرساها بالدرجة الأولى استقرار منظومة التسبيق على المداخيل (الدعم العمومي لإنتاج الأفلام)، ما انعكس بحيوية ملموسة على صعيد الجماليات في العقد الأخير.
لعلّ أبرز سمات هذه الحيوية انبثاق سينما شبابية تراهن على جماليات النوع، وصحوة النوع الوثائقي (خاصة مع مخرجات)، فتحقَّقَ للسينما المغربية في السنوات الأخيرة حضور وصدى في مهرجانات سينمائية كبرى، وإنْ ظلّ مُتقطّعاً وغير كافٍ للحديث عن إقلاع حقيقي، ما زالت شروطه لم تنضج بعد في منظومة القوانين المنظِّمة للقطاع، والعقليات، والممارسة في الميدان.
تسعى هذه المحاولة إلى تقييم السينما المغربية الجديدة، من دون أنْ تدّعي شموليةً، إذْ تكتفي بفتح آفاق للتأمّل في أبرز التيارات الجمالية، بدءاً بالأفلام الوثائقية، التي تجسّ نبض المجتمعات، وتمثّل "ترمومتراً" لقياس صحّة السينما فيه. تجلّى الاهتمام المتجدّد بالأفلام الوثائقية في المغرب، في العقدين الماضيين، عبر الزخم الذي وفّرته الأصوات النسائية خاصة، في تشكيلة المسابقة الأقوى في أفلامٍ روائية كثيرة في الدورة الـ22 (16 ـ 24 سبتمبر/أيلول 2022) لـ"المهرجان الوطني للفيلم".
بداية، لا بُدّ من ذكر الاسم المُكرّس سيمون بيتون، التي واصلت استكشاف فضاءات الذاكرة المغربية وأزمنتها، بعيداً عن مسارات التاريخ الرسمي، وقريباً جداً من الهمّ الإنساني، بكل ما يعنيه ذلك من ذاتية وتفرّد جمالي، في عملين بارزين: "زيارة" (2021) و"ألف يوم ويوم: الحاج إدمون" (2024). على خطاهما، أتي فيلم "لمعلقات" (2021) لمريم بنعدو، الذي عالج بالتزامٍ موضوعاً مؤثّراً براهنيّته حول وضع النساء، بمسافة مناسبة تقطع مع الفيلم الأطروحة.
مخرجون شباب آخرون أكملوا الصورة، عبر حقن الوثائقي بمكوّنات الفيلم الروائي، فحقّقت أسماء المُدير مشاركة لافتة في مهرجانات دولية بفيلمها "كذب أبيض" (2023)، الذي يستعيد تاريخ عائلتها من خلال صدمة "انتفاضة 1981"، مُستخدمةً أسلوباً جذّاباً وشخصانياً، مع ما ينطوي عليه استخدام التعليق الصوتي من مخاطر. أما عدنان بركة، فصنع لنفسه اسماً عبر فيلمه الأول "شظايا السماء" (2022)، مُتناولاً ميكروكوسم البدو الذين يعيشون بجمع شظايا النيازك، كانعكاس لحركة اللامتناهي في الزمان والفضاء.
هناك فيلمان آخران واعدان: "لعزيب" (2022) لجواد بابيلي و"صرّة الصيف" (2022) لسالم بلال، خاصة أنّهما يُشكّلان استثناءً لقاعدة آلية دعم إنتاج، جاء حصادها هزيلاً للغاية، رغم الموارد المخصّصة لها، ومرور عقد من الزمن على إرسائها. علينا مواجهة حقيقة أنّ جُلّ الأفلام المنتجة بفضل الدعم المخصّص للأفلام الوثائقية، حول الثقافة والتاريخ والفضاء الحساني، خرجت باهتة، ومصنوعة بدرجة صفر من التفرّد. لذا، فإنّها لا تخدم في نهاية المطاف أيّ قضية، كونها ليست مُتجذّرة في قضية السينما أولاً. حان الوقت لإصلاح نظام التسبيق على المداخيل، وآلية دعم الأفلام الحسانية بالدرجة الأولى.
إذا كان أداء الأفلام الوثائقية المغربية أفضل عموماً، فالفضل بذلك عائد جزئياً إلى تطوّر الإنتاج المشترك، المحلي والدولي، وإلى برامج الدعم التي توفّرها منظّمات ومهرجانات، تُمكّن المخرجين من تطوير أعمالهم على مدى زمني متوسط أو طويل، ما يساعدهم على الاستبطان والاستقصاء. في هذا الصدد، يُشار إلى الدور المهمّ الذي تلعبه القناة المغربية الثانية، من خلال برنامجها "قصص إنسانية"، في دعم إنتاج وبثّ الأعمال الوثائقية المغربية في وقت الذروة.
أما على الصعيد الروائي، فرغم أنّ تطور الإنتاج الذاتي لم يساعد للأسف في رفع مستوى الأعمال الكوميدية، المنتجة في السنوات الأخيرة، فغرق معظمها في سيناريوهات ركيكة ومقاربات مبتذلة، إلاّ أنّه ساعد على الأقل في تجاوز الثنائية الجاحدة "الكَمّ والكيف". هذه المقولة الكسولة، التي استُخدمت غالباً لإخفاء موقف دوغمائي ومناوئ لفكرة الدعم العمومي للإنتاج، مُلصقةً تلقائياً لافتة "الكّمَ" (أي الإنتاج من أجل الإنتاج) بأي عمل يطمح إلى احتضان جمهور واسع، وحاجزةً علامة "الكيف" (أي الجودة) لأفلامٍ لا حظّ لها من "سينما المؤلف" سوى الاسم، مع الفشل في تحليل تجليات هذه الأخيرة من داخل الأعمال المعنية.
يرى فرنسوا تروفو أنّ الفيلم ليكون ناجحاً "ينبغي أنْ يُعبّر عن فكرة عن العالم وفكرة عن السينما في آن واحد". استوعب بعض المخرجين المغاربة هذا الأمر جيداً، فقاموا بتهجين سينما النوع والوقائع الاجتماعية. ربما لا تنعكس هذه السمة على تجارب مخرجين مهمين، كهشام العسري بانزياحه الفطري، وحكيم بلعباس الباحث عن أشكال أصيلة تمحو الحدود بين التوثيق والتخييل (اللافت أنّ كلاهما منغرسٌ في الثقافة الشعبية على طريقته الخاصة)، لكنّ نهاية العقد الأول من القرن الـ21 وبداية العقد الموالي، شهدا مثلاً اقتحام الأفلام المغربية لنوع "أفلام السّطو". يتبادر إلى الذهن "كازانيغرا" (2008) لنور الدين لخماري، و"على الحافة" (2011) لليلى الكيلاني، و"موت للبيع" (2011) لفوزي بن السعيدي.
استمرّ هذا التوجّه في بداية العقد الراهن، مع فيلمين أولين لخرّيجَي "لافيميس": إسماعيل العراقي وكمال الأزرق، على التوالي في "زنقة كونتاكت" (2020)، الذي يمزج بين فيلم الإثارة الانتقامي والكوميديا الموسيقية، مع طاقة الـ"هارد روك"، و"عصابات" (2023)، عمل حربائي بامتياز، يتلوّن بفيلم الجريمة والمغامرة الليلية وفيلم الطريق. في مقابلة مع الأزرق (العربي الجديد، 29 مارس/آذار 2024)، يسرّ بتفصيل دالّ عن هذا التوجّه، الذي يمنح أهمية قصوى للفضاء: "عندما كنت أعرض السيناريو على شركاء التمويل أو اللّجان، كنتُ أُسأل كثيراً: "ما هذا تحديداً؟ فيلم طريق؟ فيلم إثارة؟ في الوقت نفسه، هناك لمسات هزلية. عليك تحديد ما إذا كان الفيلم على طريقة الأخوين كُوِن، أم أنّه فيلم "بورليسك" على طراز كوريسماكي. أعطنا مرجعاً ما". والإجابة: الفيلم يتنقّل بين مراجع وأنواع عدّة. لكنّي أعتقد أنّه مُتجذّر في الدار البيضاء. يأتي الطابع، أساساً، من هذه المدينة، والشخصيات المتفرّدة التي نلقاها حين نتجوّل فيها. لذلك، كان لديّ منذ البداية حدسٌ يقضي أنْ الفيلم سيكون مزيجاً من الأنواع".
من جانبها، سعت صوفيا علوي إلى تأكيد نيات فيلمها القصير الرائع "ماذا يهمّ لو نفقت البهائم" (2020)، من خلال ركوب جماح الخيال العلمي، نوعٌ صعب ونادر في سينما المنطقة. في فيلمها الطويل الأول "أنيماليا" (2023)، استخدمت استعارة الكائنات الفضائية لمساءلة اليقينيات الدينية، واغتراب العلاقة بين البشر والعالم، لتخرج بنتيجة غير متكاملة، لكنّها تبقى تجربة مهمة وواعدة في المجمل.
إذاً، لا يتردّد جيل جديد من المخرجين في مساءلة سينما ثمانينيات القرن الـ20 وتسعينياته، عبر خلط الرموز والاقتباس من تقاليد الأنواع السينمائية المنفتحة على المخيال الواسع، مع طمس الخطوط المرجعية انسجاماً مع جمالية ما بعد الحداثة، وطموح واضح للكونية.
وبما أنّ الشباب مسألة نظرة أكثر من عمر، فبوسعنا اعتبار فوزي بن السعيدي (57 عاماً) عرّاباً لهذا التوجّه. فـ"الثلث الخالي" (2023)، ربما أجمل فيلم مغربي في الألفية الجديدة، يتموقع في مفترق الطرق بين كلّ الاتجاهات التي استعرضناها: تملّكٌ لفضاء الصحراء المغربية، بعد أن تُرك لعقود "نهباً" لعدسات مخرجين أجانب استغلوه غالباً لتصوير قصص فولكلورية. مزجٌ بين الأنواع يفسح مجالاً للتداخل بين السينما الهزلية والوسترن الصوفي. وفي الخلفية، طرحٌ مناوئ للرأسمالية الوحشية، وبالتالي كونيّ بالضرورة. في الدورة الـ20 (24 نوفمبر/تشرين الثاني ـ 2 ديسمبر/كانون الأول 2023) لـ"المهرجان الدولي للفيلم بمراكش"، أسرّ بن السعيدي لجمهور "حوار مع..." بأنّه لا يشعر بأنّه مُلزم باحترام تقليد الفصول الثلاثة، الذي صاغه أرسطو. نتيجة ذلك، عندما يقوم باختيار بالغ المجازفة في "الثلث الخالي"، بشبك قصة بأخرى قبل أنْ يُطرّز الفاصل بينهما بخيط شعري، فإنّه يفعل ذلك تماشياً مع تقليد "ألف ليلة وليلة" في تضمين الحكايات، ووضع الشخصيات أمام لعبة مرايا متقابلة.
كخلاصة:
أولاً: تملّك التقاليد المحلية المرتبطة بتمثل الفضاءات وتاريخ الأشكال. ثانياً: التجذّر في النوع السينمائي. ثالثاً: تبنّي طموح كونيّ. هل تمثّل هذه السمات الثلاث مفاتيح مصالحة ثانية كبرى بين السينما المغربية وجمهورها، بعد تلك التي تحقّقت في بداية تسعينيات القرن الـ20، بفضل ما أسماه الناقد محمد بكريم "سيناريو القرب"؟ خاصة أنّ أغلبية الجمهور تتشكّل اليوم من شباب مطّلعين على أفلامٍ ومسلسلات مقبلة من شتّى أنحاء العالم، تبثّها منصّات البث التّدفقي.
الزمن وحده كفيل بالإجابة، لكنّ النتيجة ستعتمد حتماً على هيكلة المنطومة السينمائية المغربية: سياسة عمومية أكثر إنصافاً لتأطير التوزيع والاستغلال، وإدماج التكوين على ثقافة الصورة في البرامج التعليمية، إضافة إلى دعم دور سينما "فنّ وتجريب"، وتنشيط "الخزانة السينمائية المغربية"، المدعوة أكثر من أي وقت مضى إلى الخروج من خمولها.
لا شكّ أنّ هناك زخماً جمالياً محسوساً في أفق السينما المغربية. لكنْ، يتعيّن رعايته وتعزيزه بشروط تحقيق الإقلاع المنشود.