فلاديمير مينشوف... لأنّ السينما كانت الشغف الأول

فلاديمير مينشوف... لأنّ السينما كانت الشغف الأول

09 يوليو 2021
شارك ممثّلاً في عدد من المسلسلات والأفلام (Getty)
+ الخط -

مع رحيل المخرج والممثل وكاتب السيناريو فلاديمير مينشوف، تفقد السينما السوفييتية والروسية واحداً من روادها الأكثر جدلاً في مسيرته الفنية، التي انطلقت منذ ستينيات القرن الماضي. كان مينشوف من أكثر الفنانين قرباً إلى قلوب وعقول مواطنيه السوفييت والروس.

ورغم اتهامات زملائه في المهنة، والنقاد، بتناول القضايا بسطحية والتركيز على المشاعر الإنسانية البسيطة، من دون تلميحات دقيقة أو حبكة مُحكمة للهروب من سيف الرقابة، فإن أفلام المخرج حققت نجاحاً واسعاً كان محط حسد كثيرين من "زملاء المهنة".
لم تكن مواقف مينشوف في السياسة أقل جدلاً؛ فهو المواطن السوفييتي البسيط الذي لم يعاند السلطات، ولم يبعث في لوحاته رسائل مغلفة بأيديولوجيا عميقة، لكن فيلمه "الحب والحمام"، وُضع على الرف لأكثر من عام، وطالبت الرقابة بحذف دور إحدى الشخصيات التي كانت تجسد رجلاً مدمناً على الكحول، وربما كان من سوء حظ مينشوف أن الفيلم أُنجز في فترة إطلاق السلطة السوفيتية حملة ضد الكحول، ولكن الفيلم عُرض لاحقاً وحقق نجاحا كبيراً. وفي روسيا بعد السوفييتية، ظلت مواقف المخرج الراحل السياسية متقلبة حتى أيامه الأخيرة.
ولد مينشوف في عام 1939، في مدينة باكو عاصمة أذربيجان الحالية، وانتقل مع والديه لإتمام الصف الأول إلى مدينة استراخان جنوبي روسيا. ومن هناك، وبعد إنهاء المدرسة، قصد موسكو في أول محاولة من أجل الانتساب إلى المعهد الروسي للسينما (فغيك)، لكنه عاد خائباً إلى استراخان ليعمل في مناجم الفحم، قبل أن يعاود الانتقال إلى العاصمة مدفوعاً بحب الفن، ليدرس المسرح ويظفر بحب حياته الفنانة فيرا ألينتوفا، وزوجته التي لعبت دور الشخصية الرئيسية في فيلمه الأكثر شهرة "موسكو لا تؤمن بالدموع". ولأن السينما كانت شفغه الأول، واصل مينشوف بإصرار نادر محاولاته لاقتحام هذا العالم، وحاز شهادة من معهد " فغيك" في بداية السبعينيات، ويصبح واحداً من ألمع الممثلين والمخرجين ومدرساً في المعهد.
يعد فيلم "موسكو لا تؤمن بالدموع" العمل الأكثر شهرة وشعبية في تاريخ مينشوف. أُنتج الفيلم في عام 1979، وفي العام الأول لظهورة حاز أكثر من 85 مليون مشاهدة، ولم يكن حصوله على أوسكار أفضل فيلم أجنبي عامل النجاج المهم له، بل شكل إضافة نوعية لأعماله، ليصبح ملك شباك التذاكر في الحقبة السوفييتية من دون منافس.
وفي لقاءات صحافية، يشير مينشوف إلى أنه ذُهل بالحضور عندما رأى طابوراً كبيراً أمام سينما "روسيا"، قرب ساحة بوشكينسكايا، وسط العاصمة موسكو، وقال مازحاً: "عندما رأيت هذا الدور الكبير، ظننت أنني في اجتماع للمعارضين، وبعدها فكرت أنه ربما طرح أحد المحلات التجارية مادة كانت مفقودة في السوق"، وقال: "عندما أدركت أن الناس يريدون مشاهدة فيلمي عشت 20 ثانية من السعادة الغامرة المطلقة".
لاحقاً، علم مينشوف بحصول فيلمه على جائزة أوسكار الأميركية من نشرة الأخبار على التلفزيون السوفييتي، وقال إنه ظن الأمر "كذبة نيسان"، وأوضح أنه لم يحصل على تمثال الأوسكار إلا في أواخر الثمانينيات، بعدما كان موجوداً لسنوات في مؤسسة الأفلام السوفييتية تعلوه طبقة سميكة من الغبار.


ومع نجاح "موسكو لا تؤمن بالدموع" الشعبي، بدأ زملاء المهنة بتوجيه انتقادات حادة للمخرج "المتناقض الذي لا علاقة له بالفن الراقي والعامل فقط لكسب الجمهور". ومن اللافت، أنه بعد نحو 40 عاماً على صدور الفيلم، ما زال الروسيون يناقشون ويبحثون في مصير الأبطال الخياليين الذين تحولوا عملياً إلى واقع، وكيف كان يمكن أن يعيش أي واحد منهم لو تبنى خياراً آخر غير المسار الدرامي الذي حدّده المخرج وكاتب السيناريو.

وحتى اليوم، ما زالت الأغنية الافتتاحية للفيلم "ألكسندرا" من الأغنيات المحببة في سهرات الروسيين ممن عاصروا الحقبة السوفييتية، بما تمثله من تصوير حي عن فترة الركود في عصر الزعيم السوفيتي ليونيد بريجنيف.


تدور أحداث "موسكو لا تؤمن بالدموع" في خمسينيات القرن الماضي، حيث تنتقل ثلاث فتيات، أنتونينا وليودميلا وكاتيرينا، إلى موسكو، بحثاً عن الحب والسعادة والرخاء، ومكانتهن في هذه المدينة النابضة بالحياة، فيصادفن أشخاصاً مختلفين ويتعرضن لمواقف صعبة. استفاد مينشوف من حياته في السكن الجماعي مع زوجته وابنته، ووظفها في هذا الفيلم، ليقدم صورة للعالم عن طبيعة هذا السكن وعلاقاته الشائكة ومشكلاته، كلمحة ضمن إطار أوسع عن صعوبة حياة العاصمة للحالمين بدخولها.
ومن الأعمال المميزة لمينشوف، فيلم "الحب والحمام" (1985). حينها، قرّرت الرقابة السوفيتية وضع اللوحة الكوميدية في أدراج الرقابة لمدة عام، قبل الإفراج عنها، نظراً لتزامنها مع حملة الزعيم ميخائيل غورباتشوف على الإدمان الكحولي الذي كان وما زال من أكبر المشكلات في المجتمع الروسي.
وعمل المخرج على نص مسرحي للكاتب فلاديمير جوركين، ليضع معياراً لحب القريبة في لوحة تعيدنا إلى حقبة بريجنيف، التي كانت فترة ركود للبعض وفترة رخاء وبحبوحة لكثيرين. ولم يخرج الفيلم عن حبكات مينشوف البسيطة والمبتكرة في الوقت ذاته، فمعايير السعادة تختلف من شخص لآخر، وربما يحصل عليها من يريد مشاهدة الحمام وهو يطير في السماء، أو الاستمتاع بوجبة بسيطة في المنزل، حين يجمتع جميع أفراد العائلة

وبعد عشر سنوات من الغياب، عاد مينشوف ليخرج فيلم "شيرلي ميرلي"، الكوميدي الخيالي الهزلي، والذي تعرض للانتقادات من كل صوب، لكنه حقق نجاحاً جماهيرياً كبيراً. يتطرق الفليم إلى فترة التسعينيات الصعبة، وتغلغل المافيا في روسيا. وما زال الروس يردّدون قول أحد الأبطال في الفيلم: "الملفوف، يا أمي، إنه شيء جيد بالطبع، لكنك تحتاج أيضًا إلى الاحتفاظ بوجبات اللحوم الخفيفة في المنزل". وبعد نحو ربع قرن على ظهور "شيرلي ميرلي"، بات واضحاً أن الفيلم يتعلق بالماضي والحنين إليه، بقدر ما يتعلق بالمستقبل. إنه فيلم تنبأ فيه المخرج بما ستؤول إليه الأوضاع في روسيا المعاصرة.

إضافة إلى إبداعاته في مجال الإخراج والسيناريو، مثل مينشوف في أكثر من مئة فيلم، وعدد من المسلسلات

إضافة إلى إبداعاته في مجال الإخراج والسيناريو، مثل مينشوف في أكثر من مئة فيلم، وعدد من المسلسلات، استطاع فيها بسهولة تأدية أدوار مختلفة من شخصية الجنرالات والمارشال جوكوف، حتى شخصية الحارس الليلي، مروراً بدور الرئيس. وكان مينشوف أفضل من جسد دور "رئيس الكلخوز"، وقدم صورة عن أبطال الإنتاج في الحقبة السوفييتية، ورسم الصورة الأكثر دقة لرجل سوفييتي نموذجي في السينما، من خلال فيلم "كورير".
تسلم مينشوف منصب رئيس لجنة التحكيم لاختيار الأفلام الروسية المرشحة للأوسكار، وفجر فضيحتين من العيار الثقيل. في عام 2007، أثناء حفل توزيع الجوائز لأفضل الأفلام الروسية، رفض مينشوف تسليم الجائزة لفيلم ألكسندر أتانيسيان حول المخربين، الأحداث "الأوغاد"، ووصف الفيلم بأنه "هابط مهين لبلادي"، واعتذر عن تقديم الجائزة، وهبط عن خشبة المسرح، وطلب من زميلته باميلا أندرسون تقديم الجائزة.
وفي عام 2011، رفض ترشيح فيلم "المنهكون في الشمس 2"، من إخراج نيكيتا ميخالكوف، رئيس اتحاد السينمائيين في روسيا، ورئيس مهرجان موسكو السينمائي الدولي، لجائزة الأوسكار الأميركية، ووصف الفيلم بأنه "تافه" ولا يستحق أي جائزة.
ولا يقتصر الجدل حول مينشوف على أعماله الفنية وعلاقاته مع زملائه، بل يتعداه إلى السياسية. فالمخرج المعروف عضو في حزب "روسيا الموحدة" الحاكم منذ 2003، ولكنه اعترض بشدة على ترشيح بوتين في 2008 لولاية ثالثة، ووقع على بيان بهذا الخصوص، وانتقد زملاءه الذين يقولون إنه لا يوجد بديل لبوتين.
وفي 2016، قال مينشوف في حوار مع موقع "إيسكوير" الأميركي المتخصص بأخبار الثقافة والفن، إنه انضم إلى حزب روسيا الموحدة مصادفة، وإنه يصوت في الانتخابات لصالح الشيوعيين. ورغم ذلك، كان مينشوف ضمن عداد المندوبين المفوضين من قبل بوتين لمراقبة نزاهة الانتخابات أثناء ترشحه لولاية رابعة في 2018. وحتى الأيام الأخيرة، كانت مواقفه السياسية مثيرة للجدل، مع اختياره ضمن أول خمسة أسماء في القائمة الفيدرالية لانتخابات الدوما (البرلمان) المقبلة، عن حزب "روسيا العادلة" المعارض.
وفي أكثر من لقاء، دعم ضم القرم إلى روسيا في 2014، وبعدها تبرع بمبلغ مليون روبل لدعم "قوات الحماية الشعبية" المسلحة في دونباس التي تدعو للانفصال عن أوكرانيا.

ربما، لن تستطيع الأجيال التي لم تعايش الحقبة السوفيتية؛ فهم بواطن شخصيات مينشوف التي أبدعها أو مثلها، ولكنه سيبقى مثيراً للجدل بتصرفاته المشاكسة، وإصراره على اقتحام عالم السينما ونجاحه في ذلك، رغم بساطة الشخصيات القريبة إلى العامة، والأقرب إلى أبطال حكايات خرافية للبالغين، إضافة إلى مواقفه السياسية المتقلبة.

المساهمون