استمع إلى الملخص
- النجاح والشهرة في الخمسينيات: أصبح رمزًا للبطل الشعبي في السينما المصرية، ولقب بـ"وحش الشاشة"، وكتب قصص 27 فيلمًا، وتعاون مع كبار الكتاب مثل نجيب محفوظ.
- الإقامة في بيروت والتوسع الدولي: انتقل إلى بيروت في الستينيات، وشارك في أفلام لبنانية وسورية وتركية، مما جعله نجمًا محبوبًا في تركيا، واستمر في العمل حتى التسعينيات.
بين المسرح والإذاعة والموسيقى، قضى فارس يواكيم (1945، مصر) عقوداً من حياته مواكباً ومؤرّخاً ومشاركاً في أبرز محطات المشهد الفني العربي في القرن الماضي، وشاهداً على التحوّلات في عالم الفن. تنشر "العربي الجديد" مذكرات يواكيم مع أبرز الفنانين والمنتجين والمخرجين والصحافيين العرب، مستعيدة محطات شخصية ولقاءات مع هؤلاء في القاهرة وبيروت وباريس، وغيرها من العواصم
حين تأسّس "المعهد العالي لفن التمثيل العربي" في القاهرة سنة 1944 التحق به شاب من خريجي "مدرسة الفنون التطبيقية"، لا رغبة لديه في ممارسة مهنة من المهن التي تعلّمها، لكنه مسكون بعشق التمثيل، ويحلم بأن يكون نجماً مسرحياً أو سينمائياً، اسمه فريد شوقي. وتحقق الحلم سنة 1946 وهو لمّا يزل يتابع الدراسة، فشارك بالتمثيل في فيلم "ملاك الرحمة" وهو من تأليف وإخراج يوسف وهبي، وتبعه فيلم "ملائكة في جهنم" وكان أول أفلام المخرج حسن الإمام.
سنة 1947 تخرج فريد شوقي ومعه زملاء دفعته، كوكبة من الذين أصبحوا كبار نجوم السينما والمسرح، تتقدمهم فاتن حمامة، ومعها شكري سرحان، وعمر الحريري وصلاح منصور وحمدي غيث وكمال حسين ونبيل الألفي وعبد الرحيم الزرقاني.
في سنة تخرّجه شارك بالتمثيل في ستة أفلام، وفي السنة التالية بعشرة! صار معروفاً في الوسط السينمائي، ولفت انتباه أنور وجدي فأسند إليه أدواراً في أفلامه مع ليلى مراد مثل "قلبي دليلي" و"عنبر" و"طلاق سعاد هانم" وأشهر الأفلام "غزل البنات"، فبدأ يصير معروفاً لدى جمهور السينما عموماً. أظهر مواهبه في أداء الأدوار المختلفة في الأفلام الكوميدية والميلودرامية والاجتماعية والاستعراضية.
لكن شخصيته الفنية التي جعلت منه ممثلاً شهيراً يحظى بإعجاب قطاع كبير من الجمهور، خصوصاً أبناء الطبقة الشعبية الذين يحبّون البطل - البطل "الشجيع" الذي يقتحم الأخطار بلا تهيّب، فقد تكوّنت في الخمسينيات، عبر مجموعة من الأفلام مثل "الأسطى حسن" و"حميدو" و "جعلوني مجرماً" و"رصيف نمرة 5" و"فتوات الحسينية" و"النمرود" و"الفتوة"؛ وهي أفلام تولّى إخراجها كبار مثل صلاح أبوسيف وعاطف سالم ونيازي مصطفى. الطريف أن هذه الأفلام كان فريد شوقي ممثلاً دور البطولة فيها، لكنه في الوقت نفسه مؤلّف القصة! بل إن قصص 27 فيلماً من أفلامه الكثيرة التي بلغت نحو 330 فيلماً كانت من تأليفه!
ويدين فريد شوقي بنجاحه في تلك الأفلام إلى كونه ابن الحارة الشعبية المولود في "السيدة زينب" الذي نشأ في حي "الحلمية الجديدة" المجاور، والذي استوعب جيداً شخصية ابن الحارة الجدع، ووُفِّق في استغلالها بالقصص التي ألّفها، فأصبح يُلَقّب "وحش الشاشة" استناداً إلى الشخصية، و"ملك الترسو" نسبة إلى الطبقة الشعبية من جمهوره. كما أنه يدين لاثنين: نجيب محفوظ الذي كتب سيناريو أفلام مرحلة الخمسينيات هذه، والسيد بدير كاتب حواراتها. وكان محفوظ آنذاك يمارس كتابة سيناريوهات الأفلام، فضلاً عن انشغاله بتأليف روائعه الروائية.
لكن مع تطور مسيرته الفنية، لم يحبس فريد شوقي نفسه في إطار شخصية "وحش الشاشة"، إذ أثبت أنه ممثل قدير في كثير من الأفلام التي أخرجها أبرز مخرجي السينما المصرية، أربعة منها مقتبسة من روايات نجيب محفوظ، أولها "بداية ونهاية" (صلاح أبو سيف) وآخرها "قلب الليل" (عاطف الطيّب) وبينها "الكرنك" (علي بدرخان) و"الشيطان يعظ" (أشرف فهمي). وساهم فريد شوقي ممثلاً في أول أفلام يوسف شاهين "بابا أمين" (1950) ثم أدّى أدواراً متميّزة في أفلام شاهين: "صراع في الوادي" و"باب الحديد" و"اسكندرية ليه". ومن إخراج بركات فيلم "أفواه وأرانب"، وفيلم "إعدام ميّت" للمخرج علي عبد الخالق. فضلاً عن أدوار بطولة كوميدية أدّاها بنجاح في أفلام مثل "صاحب الجلالة" من إخراج فطين عبد الوهاب و"أم رتيبة" أخرجه السيد بدير عن مسرحية ليوسف السباعي، وعن رواية السباعي أيضاً فيلم "السقا مات" من إخراج صلاح أبو سيف.
عرفت فريد شوقي شخصياً في بيروت أواخر سنة 1967. كان قد انتقل للسكنى فيها، مثله مثل الفنانين المصريين، نجوم تمثيل ومخرجين وتقنيين، ممن اختاروا العاصمة اللبنانية مقر إقامة بعد ركود الإنتاج السينمائي بمصر في أعقاب حرب يونيو/حزيران الأليمة. في بيروت آنذاك: رشدي أباظة، وناهد شريف، ومريم فخر الدين، وعماد حمدي، وبركات، وحسن الإمام، وسيف الدين شوكت، والمونتير إميل بحري، وألبير نجيب المونتير الذي أصبح مخرجاً، فضلاً عن فريد الأطرش وصباح وعبد السلام النابلسي. طالت إقامة فريد شوقي حتى 1970، تخللتها زيارات إلى القاهرة تولّى خلالها بطولات أفلام.
كان مقيماً في فندق بحيّ عين المريسة في بيروت ثم انتقل إلى شقة مفروشة. تصادق معه ثلاثة من الممثلين اللبنانيين: إبراهيم المرعشلي وسمير شمص والفلسطيني المتلبنن محمود سعيد. كانوا ندماء جلساته المسائية. كانوا ينادونه دائماً "الملك". انضممتُ إليهم أحياناً، وفي تلك المسامرات اكتشفت أن "وحش الشاشة" رجل طيب للغاية، وصاحب نكتة. كما واظب على زيارته آنذاك ثلاثة من قدامى الممثلين المصريين الذين استقروا نهائياً في بيروت: حسن المليجي ومحمود نصير وأنور زكي. فريد شوقي الشعبي كان يسعد بزياراتهم خصوصاً للعب "الكومي". وهي لعبة ورق مصرية مطابقة للعبة "الباصرة" الشامية مع فارق أن ورقة السبعة (ديناري) كانت بمثابة الجوكر. كنتُ احتياطياً أنوب عن غائب ليكتمل الرباعي. كان يرقص إذا فاز ويحتد إذا خسر. وحين كان فريد شوقي يشتهي أكلة "الكُشَري" كانت زوجة أنور زكي تطبخها له (وهي من آل جبور، من شوام الإسكندرية).
في تلك الفترة تولى فريد شوقي بطولة أفلام لبنانية وسورية. منها "أهلاً بالحب" مع صباح وعبد السلام النابلسي، من إخراج محمد سلمان؛ ومع المخرج ذاته فيلم "الشيطان" وبطلته شمس البارودي. ومع المخرج المصري سيد طنطاوي المقيم آنذاك في بيروت: فيلم "لقاء الغرباء" وشاركه البطولة فيه أحمد مظهر ومريم فخر الدين، و"الطريد" مع المغنّية اللبنانية المعتزلة رندة ويوسف شعبان. وبإدارة المخرج نيازي مصطفى فيلم "النصابين الثلاثة" مع نبيلة عبيد ودريد لحام ونهاد قلعي، وفيلم "سارق الملايين" مع نبيلة عبيد وعادل أدهم.
كما كان في الفترة ذاتها نجم الكثير من الأفلام التركية التي اقتضت أسفاراً إلى إسطنبول، بيد أن بعض هذه الأفلام تم تصويره في بيروت. وصار نجماً معروفاً لدى الجمهور التركي، نجماً محبوباً أسند إليه المنتجون بطولة 13 فيلماً تركيّاً، من أبرزها "عثمان الجبار" و"شيطان البوسفور" و"لاعب الكرة" والفيلم الأخير اشترك فيه دريد لحام ونهاد قلعي. سبعة من هذه الأفلام عن سيناريو من كتابة عبد الحي أديب (والد الإعلاميين عماد الدين وعمرو) وهو كان من المؤلفين الأثيرين لديه، كتب الكثير من الأفلام المصرية التي تولّى فريد شوقي بطولتها.
أثناء إقامته في بيروت، كان فريد شوقي يحرص على حضور مسرحيات النجم الكوميدي شوشو. وظل يواظب على هذه العادة كلما زار بيروت بعد عودته إلى القاهرة. سنة 1973 حضر عرض "وصلت للتسعة وتسعين" التي أخرجها محمد سلمان وكان المطرب عصام رجي ضيف شرف فيها. وكنت أنا معدّ النص. بعد العرض قال لي "دي رواية [الدنيا لما تضحك] بتاعة الريحاني". أخبرته أن نجيب الريحاني وبديع خيري اقتبسا هذه المسرحية من مصدر فرنسي، وأنا اقتبستها منه أيضاً، من مسرحية "600 ألف فرنك في اليوم".
بعد العرض انتقلنا مع شوشو إلى مقهى "دبيبو" في الروشة، وتواصل الحديث عن نجيب الريحاني، وثلاثتنا من المعجبين بأستاذ الكوميديا المصرية. قال شوشو لفريد شوقي "فارس متخصص بهذا اللون من المسرحيات وعنده مكتبة ضخمة تضم العديد من مسرحيات الفودفيل الفرنسية والإنكليزية. وقبل هذه المسرحية أعدّ لي نصّاً عن مسرحية فرنسية قدمها الريحاني أيضاً". ذكرتُ أنها مسرحية "فرقت نمرة" وهي مقتبسة من مسرحية فرنسية عنوانها "بيشون" اقتبسها الريحاني وبديع خيري في "لو كنت حليوة". قال فريد شوقي "وعملوها فيلم "أبو حلموس". قلت "بالضبط. وأنا أعددتها بمعالجة مختلفة لفيلم سوري "واحد زائد واحد" وكان من بطولة دريد لحام ونهاد قلعي وسهير المرشدي". وصار يسألني عن مسرحيات الريحاني فأذكر له مصدرها. "أنت مثّلت فيلمين عن مسرحيتين للريحاني وبديع خيري: "30 يوم في السجن" ومصدرها "20 يوم في الظل" و"المدير الفني" وهي عن "توباز" لمارسيل بانيول". تكاد "حكاية كل يوم" تكون المسرحية الوحيدة التي لا مصدر لها، إذ هي من تأليف الثنائي الريحاني-خيري. أما مسرحية "الدلوعة" فهي عن "بائعة الشكولاتة الصغيرة". قال "أنا عملتها في مسرح الريحاني"، قلت له "وشاهدتها وكانت من بطولة نيللي أيضاً" فسألني "وصفقت لي؟" قلت: كثيراً.
علّق فريد شوقي بقوله "لكن مش ممكن تشعر أنها مسرحيات غير مصرية". قلت: "وهذه براعة الثنائي في التمصير". وضربت مثلاً بمسرحية "حسن ومرقص وكوهين" المقتبسة من المسرحية الفرنسية "المقهى الصغير". نص الريحاني-خيري أفضل وأذكى. تدور أحداث المسرحية في الفصلين الأول والثالث في مقهى، والثاني في مطعم. الديكور متشابه، بل وبعض المصطلحات في الكلام أيضاً. الثنائي جعل أحداث الفصلين في صيدلية وبينهما المطعم. هكذا تنوعت الديكورات. وغيّرا شخصية صاحب المقهى إلى ثلاثة شركاء يمتلكون الصيدلية، ثلاثة نماذج من نسيج المجتمع المصري: حسن ومرقص وكوهين وتسمح شخصياتهم المختلفة بالتنوع في الحوارات. هذا تمصير يستحق الإعجاب.
استرسل فريد شوقي في شرح إعجابه بنجيب الريحاني قبل أن يلتحق بمعهد التمثيل. شاهد أفلامه وادّخر من مصروفه ليشاهده في المسرح. وسعد للغاية لدى لقائهما في فيلم "غزل البنات". وأضاف: "سنة 1963 توفي عادل خيري الله يرحمه وكان بطل فرقة الريحاني. فضلاً عن حزن أبيه بديع، كان المسرح العريق في ورطة. فَقَدَ النجم، وكانت النجمة المحبوبة ماري منيب قد انسحبت قبل ذلك من الفرقة. حزنتُ للغاية وتأثرت وقررت أن أفعل شيئاً لملء الفراغ. توجهت إلى بديع خيري وقلت له إنني مستعد للقيام ببطولة عدد من المسرحيات، ولن أتحدث بشأن المكافأة المالية. أعطوني ما بوسعكم. وهكذا وقفت على خشبة مسرح الريحاني مؤدياً أدوار العملاق الذي أحببته. تبعني بالدافع نفسه حسن يوسف ونيللي، وشاركا في بطولة مسرحيات أيضاً، فانتعش المسرح بمساهمات نجوم السينما".
ثمة قاسم مشترك آخر كان يجمع بيننا. كلانا مشجع لفريق الأهلي المصري لكرة القدم. حين كنتُ طالباً كنت أحضر المباريات في استاد النادي بجوار برج القاهرة، مع جمهور الدرجة الثالثة بحكم ميزانيتي، وكان النجم يجلس في مدرجات الدرجة الأولى. مرات قليلة، دعاني فيها زميل الدراسة نبيل خيري (أخو عادل) للجلوس معه في الدرجة الأولى، فكنت أرى فريد شوقي عن قرب. أخبرني صديق أن غياب النجم عن المدرجات كان نادراً، اضطراراً لظروف العمل. وكان بين اللقطات يسأل: "الأهلي عامل إيه؟ من أحرز الهدف الأول؟".
شاهدته في آخر ظهور مسرحي له سنة 1991 في "شارع محمد علي" مع شريهان ووحيد سيف وهشام سليم. وفي 1996 آخر أدواره في فيلمين: "الغاضبون" و"الرجل الشرس" والثاني للمخرج يس إسماعيل يس نجل الممثل الشهير. بعدها أتعبه داء الالتهاب الرئوي الحاد وتوفي 1998 عن 78 عاماً. كان والداً لأربع بنات، تزوج أربع مرات وكانت المغنية - الممثلة هدى سلطان الزوجة الثالثة، والسيدة سهير ترك شريكة حياته الأخيرة.