فانتازيا ترامب: ما بعد الصحافة ما بعد الحقيقة

28 فبراير 2025
ترامب يعطي الكلام لصحافي خلال مؤتمر في البيت الأبيض، يناير 2025 (تشيب سوموديفيلا/Getty)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- تصاعدت التوترات بين الرئيس الأميركي دونالد ترامب ووسائل الإعلام بسبب تهديداته بمقاضاة من يستخدم "مصادر مجهولة" وانتقاداته لصحيفة وول ستريت جورنال، مما يعكس توتره مع الإعلام.
- ترامب يتخذ إجراءات تقيد حرية الصحافة، مثل حرمان وكالة أسوشييتد برس من التغطية وإلغاء اشتراكات الصحف الأجنبية، في محاولة للسيطرة على التغطية الإعلامية.
- تتزايد الأسئلة حول دور الصحافة في زمن "ما بعد الحقيقة"، حيث تواجه المؤسسات الإعلامية تحديات في الحفاظ على استقلاليتها وسط الضغوط السياسية والاقتصادية.

زعيم "العالم الحرّ" وموطن الصحافة التي لطالما تغنّت وتغنينا معها بحريتها واستقلاليتها وقدرتها على إشهار الحقيقة أيّاً كانت، الرئيس الأميركي دونالد ترامب، يهدّد بمقاضاة وسائل الإعلام والكتّاب والناشرين "غير الشرفاء" الذين يستخدمون "مصادر مجهولة" وصفها بأنها "من محض الخيال ومن باب التشهير". يقترح ترامب أيضاً "سن قانون جديد"، لأن ثمن هذا "الكذب" يجب أن يكون باهظاً. يربط كثيرون هذا التهديد بكتاب الصحافي مايكل وولف الجديد "كل شيء أو لا شيء" حول حملة ترامب الانتخابية. لكن ترامب يتهجم، في اليوم نفسه، على صحيفة وول ستريت جورنال، بعدما نشرت افتتاحية انتقدت فيها خططه بشأن الرسوم الجمركية على كندا والمكسيك وآثارها "المروعة" على الاقتصاد الأميركي وقطاع صناعة السيارات. ادعاءات كاذبة عدة ضمّنها في تهجمه على الأرقام الدقيقة التي أوردتها "وول ستريت جورنال". وهذه ليست المرة الأولى التي يزدري فيها ترامب هذه الصحيفة التي وصفت اقتراحه بشأن الرسوم الجمركية، في يناير/ كانون الثاني الماضي، بـ"الحرب التجارية الأغبى في التاريخ". في اليوم نفسه، يشارك ترامب، وأيضاً عبر منصته تروث سوشال، فيديو صنع باستخدام الذكاء الاصطناعي، يحاكي خطته المتوحشة، لـ"تطهير" قطاع غزة من الفلسطينيين وتحويله إلى "ريفييرا الشرق الأوسط" حيث يتشمس مع صديقه الذي صدرت بحقه مذكرة اعتقال من المحكمة الجنائية الدولية رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو، ويرمي مستشاره "العبقري" إيلون ماسك الدولارات يميناً وشمالاً على راقصات بلحىً، وتنتشر تماثيل مذهبة لـ"الرقم واحد... القادم ليحرركم، وليمنح النور للجميع".

هذا كلّه يحصل في أقل من يوم واحد في حياة ترامب. وهذا كلّه علينا التعاطي معه بجدية، لا لشيء إلا لأنه يصدر عن الرجل الأقوى في العالم الذي خاصم الحقيقة، والصحافة التي وصفها بـ"معسكر العدو" منذ الخطاب الأوّل الذي ألقاه احتفاء بفوزه، وكل مَن يقول كلمة أو يعبر عن رغبة ليست على هواه.

فها هو يحرم وكالة أسوشييتد برس (الأميركية)، التي اتهمها بأنها تنتمي إلى "معسكر اليسار الراديكالي"، من تغطية نشاطات رئاسية لأنها ترفض استبدال تسمية خليج المكسيك بـ"خليج أميركا"، ثم ينتزع من الصحافيين سلطة تمتعوا بها منذ نحو قرن، ويحرم جمعية مراسلي البيت الأبيض من اختيار مَن يغطون الشؤون الرئاسية، ويمنح هذه السلطة للمسؤولين الإعلاميين في البيت الأبيض. لماذا؟ لأن "ترامب محق في كل شيء" (الجملة على لسان ترامب الذي ذكر نفسه بصيغة الغائب). وتصدر وزارة الخارجية أمراً بإلغاء اشتراكات الصحف والوكالات الأجنبية، في قرار يشمل "نيويورك تايمز" و"بوليتيكو" و"بلومبيرغ نيوز" و"إيكونوميست" و"رويترز" و"أسوشييتد برس". وتخلي وزارة الدفاع (البنتاغون) مكاتب أربع مؤسسات إعلامية (نيويورك تايمز، وإن بي سي نيوز، وبوليتيكو، وإن بي آر)، لإفساح المجال لمنافذ إعلامية أخرى، بما في ذلك "نيويورك بوست" وموقع "بريتبارت" المحافظان.

ويزعم مع ماسك زوراً بأن الوكالة الأميركية للتنمية الدولية حولت أكثر من ثمانية ملايين دولار إلى "بوليتيكو". هذه الوكالة، التي ألغت إدارة ترامب أكثر من 90% من التمويل المخصص للمساعدات الخارجية التي تقدم لها، وفرت، بحسب بياناتها، خلال عام 2023، التدريب والدعم لـ6200 صحافي، وساعدت 707 منصات إعلامية غير حكومية، ودعمت 279 منظمة غير حكومية لتعزيز وسائل الإعلام المستقلة، في أكثر من 30 دولة حول العالم. ترامب وماسك يزعمان أيضاً أن وكالة رويترز للأنباء استفادت على نحو غير قانوني من عقد قيمته تسعة ملايين دولار مع وزارة الدفاع الأميركية.

والأكاذيب لا تتوقف، بل يعاد على أساسها تشكيل سياسات الولايات المتحدة والعالم: واشنطن أرسلت واقيات ذكرية بقيمة 50 مليون دولار إلى حركة حماس. برامج التنوع والشمول تسببت في تحطم طائرة. الصين تسيطر على قناة بنما. أوكرانيا هي التي شنت الحرب على روسيا... كل ذلك بدعم من أوليغارشيين يتملكون المؤسسات الإعلامية وعمالقة التكنولوجيا، وعلى رأسهم "ميتا" ورئيسها التنفيذي مارك زوكربيرغ، الذي أوقف برنامجها لتقصّي صحة الأخبار في الولايات المتحدة خلال يناير الماضي، وهاجم مدققي الحقائق الذين وصفهم بأنهم "متحيزون سياسياً"، في قرار توج عقداً من حرب الشركة العملاقة على الصحافة.

مطلق كل هذه الأكاذيب لا يتورع عن التشكيك بكل صحافي وكاتب يكشف عن خباياه وخبايا إدارته، فحين نشرت صحيفة نيويورك تايمز مقالة رأي لم تكشف اسم كاتبها، في سبتمبر/ أيلول 2018، "بناءً على طلبه، وهو مسؤول كبير في إدارة ترامب نعرف هويته وستتعرض وظيفته للخطر إذا كشف عنها"، اتهمها الرئيس الجمهوري بـ"عدم النزاهة" و"الجبن" و"الخيانة" حتى، وطالبها بتسليم الكاتب "للحكومة فوراً من أجل مصلحة الأمن القومي". في نهاية 2020 كشف مايلز تايلور، كبير الموظفين السابق في وزارة الأمن الداخلي، أنه الكاتب المجهول. الاتهامات نفسها كررها ترامب في تعليقه على كتاب "الخوف: ترامب في البيت الأبيض"، الذي أصدره عام 2018 الصحافي بوب وودوارد، صاحب السبق الصحافي الذي كشف عن فضيحة "ووترغيت". الحوادث المشابهة لا تحصى.

هكذا يدير الرجل الذي سخر يوماً من مراسل معوّق البلاد التي قيل إنها "أرض الأحرار وموطن الشجعان". وإذا ظننا أن كل القيم الأساسية الأميركية التي لطالما حلمنا بها غير قابلة للمساومة، وأن الصحافة الأميركية لن تقبل الخضوع، فعلينا التفكير مجدداً. مالك صحيفة واشنطن بوست جيف بيزوس، الذي يفعل كل ما في وسعه لتجنب غضب ترامب، أعلن، الأربعاء، أن الموضوعات التي سيغطيها قسم الرأي ستنحصر في الدفاع عن الحريات الشخصية والسوق الحرة، ما دفع مسؤول القسم ديفيد شيبلي إلى الاستقالة، وكانت قد سبقته استقالات كثيرة احتجاجاً على تقرب الصحيفة ومالكها من ترامب وقرارها بعدم تأييد أي مرشح في الانتخابات الأخيرة، وذلك في موقف تتخذه للمرة الأولى منذ عام 1988. أما بشأن الموضوعات التي طالعت القارئ في قسم الرأي في الصحيفة الأميركية المرموقة تزامناً مع إعلان بيزوس فهي "رأس الدش يكذب عليك" و"ما تعلمناه عن السياسة حين تحدثنا عن... الذئاب". وفي ديسمبر/ كانون الأول الماضي، وافقت "إيه بي سي نيوز" على دفع 15 مليون دولار لتسوية دعوى قضائية رفعها ترامب، زعم فيها أن المذيع الشهير للشبكة جورج ستيفانوبولوس شوّه سمعته. واعتُبرت التسوية بمثابة تنازل كبير من قبل مؤسسة إعلامية كبيرة لترامب الذي غالباً ما انتهت جهوده السابقة لمقاضاة المنافذ الإخبارية بالهزيمة.

حوادث متفرقة، لكنها معاً تطرح أسئلة عن دور الصحافة في زمن ما بعد الحقيقة حين ينتشر فيديو فانتازيا استشراقية طفولية عن غزة على نطاق واسع، وتهاجم الإحصاءات الموثقة بالمزيد من الادعاءات، ويتعامل زعماء العالم مع الحقيقة والكذب كأنهم يفاضلون جمالياً بين خيارين، وتعاني مؤسسات مرموقة وتتصارع في ما بينها وتساوم خوفاً من دعاوى التشهير، ويخاف الكتّاب فيحجبون أسماءهم، ويحجبون أسماءهم فيخافون أكثر. هي فرصة لنقاش التشابكات العميقة بين رأس المال والصحافة، وفرصة للتفكير في تحديات الصحافة في سياق عالمي بعيداً عن افتراضات الغرب الحر وبقية العالم المقموع.

المساهمون