فائق عبد الجليل... شاعر "بْعاد" أول قلم شهيد في الكويت
استمع إلى الملخص
- تعاون يواكيم مع فرقة "المسرح الكويتي" في عام 1982 لكتابة مسرحية للأطفال، مما أدى إلى صداقة قوية مع الشاعر فائق عبد الجليل، الذي كتب العديد من القصائد المغناة في الخليج العربي.
- خلال الغزو العراقي للكويت، رفض عبد الجليل مغادرة البلاد وكتب أغانٍ للمقاومة، واعتُقل في 1991، وعُثر على رفاته في 2004، تاركًا إرثًا شعريًا مستمرًا.
بين المسرح والإذاعة والموسيقى، قضى فارس يواكيم (1945، مصر) عقوداً من حياته مواكباً ومؤرّخاً ومشاركاً في أبرز محطات المشهد الفني العربي في القرن الماضي، وشاهداً على التحوّلات في عالم الفن. تنشر "العربي الجديد" مذكرات يواكيم مع أبرز الفنانين والمنتجين والمخرجين والصحافيين العرب، مستعيدة محطات شخصية ولقاءات مع هؤلاء في القاهرة وبيروت وباريس، وغيرها من العواصم
في سنة 1982 تم الاتفاق بين فرقة "المسرح الكويتي" وبيني لكتابة مسرحية للأطفال عنوانها "تسمح تضحك"، وذهبت برفقة الشاعر فائق عبد الجليل الذي سيكتب أغاني هذه المسرحية إلى مقر الفرقة لتوقيع العقد، وكان هو رئيس مجلس إدارة الفرقة أيضا. أحضر السكرتير نسخة لكي أوقعها، وقرأت اسم المسؤول الذي سيوقع نيابة عن الفرقة، وجدته فائق محمد العياضي. وقبل أن أعرب عن أسباب دهشتي شرح لي الشاعر أنه هو فائق العياضي، هذا اسمه في المستندات الرسمية، أما فائق عبد الجليل فهو اسم الشهرة، وهو مركّب من اسمه الأول ومن اسم خاله عبد الجليل، وكان يحبّه حبّا جمًّا، إذ كان المشجع الأول لقصائده.
كنت أعرف أن فائق يدعى "أبو فارس" أيضا، على اسم ولده. هكذا سمعت أصدقاءه ينادونه في لقاءاتي الأولى به. وصرت أناديه مثلهم "أبو فارس". واتخذها مادة للمزاح فكان يناديني أحيانا "يا ولدي" وأردّ عليه "هلا يابا".
كان اللقاء الأول الذي جمعني بالشاعر فائق عبد الجليل سنة 1975، في كافتيريا فندق الشيراتون بالكويت، وكان برفقة يوسف المهنا، الملحن القدير الذي كنت أعرفه من قبل وهو الذي قدّم أحدنا للآخر. لم أكن بحاجة إلى وقت طويل لكي تتحول المعرفة إلى صداقة، إذ تميّز فائق عبد الجليل – فضلاً عن موهبة الشعر – بمودة فائقة ودماثة خلق واحترام الأصدقاء، وكانت الجلسات معه ظريفة وطريفة، يغلب عليها الحديث عن الشعر. كان الشاعر وكنت ذواقة الشعر. وكان مزاجنا الأدبي متقاربا، وكانت رؤيته لفن الشعر منسجمة مع مفهومي، خصوصا لإعطاء الصورة دورا مهما، يوقظ خيال المتلقّي ويرتفع بالقصيدة من جفاف سرد الوقائع إلى نداوة الحالة الشعرية.
كان معجبا بشعر نزار قباني الفصيح، ويحفظ الكثير من قصائده. كما كان يحفظ كلمات أغاني فيروز التي صاغها الأخوان رحباني بسبب إعجابه بها. ذات مرة أوصلني بسيارته إلى مقر إقامتي وكان طول الطريق يُسمعني مزيجا من أشعاره ومن قصائد لنزار وللأخوين رحباني. تكلم على الصور في "بكتب اسمك يا حبيبي ع الحور العتيق" وقال "فيها طرب، حتى قبل اللحن"، وعلى "تعوّد شعري الطويل عليك" وقال "هذه شعر وموسيقى ولوحة رسام معًا". وحين زار نزار قباني الكويت سنة 1981 ذهبت للترحيب به وبرفقتي فائق عبد الجليل. ما إن لفظت اسمه وقبل أن أعرّف به قال نزار "لست بحاجة للتفاصيل. أعرف من هو. سمعت قصائده المغناة وأعجبتني. لكن للأسف لم تتح لي فرصة قراءة أشعاره". وعَدَه فائق بتقديم دواوينه له وأردف يقول "أنا تلميذ مخلص ومجتهد في مدرسة نزار قباني". فضلا عن ذلك أذكر أن فائق عبد الجليل أطلعني في بيته على مجموعة كاملة من مقالات أنسي الحاج في ملحق جريدة "النهار" (كلمات، كلمات) وأخبرني أنه مفتون بأسلوبه.
في مقدمة ديوانه الثاني "سالفة صمتي" (1977) كتب: "مهمّة الشاعر ليست صبّ قوالب وأشكال مألوفة، وإنما خلق الحركة العصرية المتجددة داخل سكون القصيدة، وحمل الدهشة والمفاجأة إلى الناس". وأبدى حرصه على إرساء قواعد تقارب بين اللغة الفصحى والعاميات العربية، وحين نظم القصائد طبّق ما كتبه في مقدمة الديوان، وأخذ بيد اللهجة العامية ليدنيها من الفصحى.
من قصيدة "أنا والحب والمطر": "يا بعيدة/ المطر أجبرني أكتب لك قصيدة/ المطر هذي السنة/ سوّى السما صفحة جريدة/ نشر صمتي/ نشر شوقي/نشر أحزاني السعيدة (...) المطر، هذا المغنّي اللي غنّانا/ فرّحنا، بكّانا/ خلاّنا نحب الحبّ/ معزوفة على لسانه (...) أنا والحب والمطر/ منّي دمعة، منّه دمعه/ حتى خلّينا الجفاف يخون طبعه/ وحتى خلينا الصخر يرجع له سمعه". أما القصيدة التي حمل الديوان عنوانها والتي مطلعها "يلاحقني الورق/ تأخذني هموم الوقت من وقتي/ أسكت والسكوت إنتِ/ أحاول والحلول إنتِ/ ش اسولف لِك وانت سالفة صمتي" فلقد لحنها العراقي طالب قراغولي وغناها رياض أحمد.
وما أكثر قصائد فائق عبد الجليل المغناة، شدَتْ بها أشهر أصوات الخليج العربي، بألحان أبرز الموسيقيين. وفيرة هي القصائد التي غنّاها محمد عبده. لم يبق مستمع في عموم الوطن العربي لم يطرب لـ "بعاد كنتم والا قريّبين"، إلاّ وردّدها. ومثلها "في الجو غيم"، "نسيتيني"، "المعازيم" (وهذه ألحان يوسف المهنا). ومن القصائد التي لحنها وغنّاها طلال المداح "لو ما أحبك"، "زلزليني"، "حبيبي اختار". أبو بكر سالم لحّن وغنّى "إنتي وين" و"لا تنادي" و"عطني الحل" (لحن عبد الرب إدريس). أما عبادي الجوهر فغنّى "نسّاي" وهي من ألحانه.
ديوانه الأول صدر عام 1968 وهو بعنوان "وسميّة وسنابل الطفولة". وهو أول عمل شعري يؤرخ الكويت القديمة، مجتمع ما قبل النفط. ومن قصيدة "وسميّة" تلك الأبيات: "ما أنساكِ وإنتِ صغيرة، ما أنساك/ كنتِ سنبلة صغيرة/ وكان شعرك طويل/ يسحب ليالي الكون على ظهرك/ وكان خدّك غصن تفاح/ وعينك سيف ما يرتاح". لم تشأ وزارة الإعلام طبع الديوان لأن قصائده ليست على النهج التقليدي في الأوزان والقوافي، بل هي منظومة على التفعيلة. قصد فائق عبد الجليل الشيخ سعد العبد الله الصباح، وزير الداخلية آنذاك. ولكي يتسنّى له اللقاء زعم للحراس أن لديه نبأ خطيرا يجب أن يبلغه للشيخ سعد شخصيا. وحين مثل أمامه أبلغه أن الشيء الخطير يتعلق بديوانه الشعري الأول، فضحك الشيخ سعد وأمر بدعم الديوان، فصدر وطالعه القراء.
أما ديوانه الثالث "معجم الجراح" أصدره سنة 1984، فأشعاره قصائد نثر باللغة الفصحى. ومنها قصيدة "خصلة دمع تتأرجح" وفيها نقرأ "قصائد تختفي وراء جدران دفتر/ ثرثرة كلمات/ تخاف أوراقا مهجورة/ خصلة دمع تتأرجح/ بين المشرق والمغرب".
كنت في سنة 1977 التقيت فائق عبد الجليل في دمشق أيام مهرجان المسرح العربي. كان محبًّا للمسرح، حريصا على متابعة الجديد. كان في بدايته نظم قصائد للأطفال نشرها في مجلة "سعد"، ثم نظم أغاني لمسرحيات الأطفال، ومن بعد للكبار أيضا. أسّس أول مسرح للعرائس في الكويت افتُتح سنة 1974 بمسرحية "أبو زيد بطل الرويد". كما كتب ونظم أشعار خمس أوبريتات منها "والله زمن" و"بساط الفقر" و"سندريلا" شارك فيها نجوم الكويت منهم عبد الحسين عبد الرضا وسعاد عبد الله ومحمد المنصور. فضلا عن ذلك، نظم أغاني مقدمات مسلسلات تلفزيونية مثل "علاء الدين" و"أبله منيرة" و"علي بابا".
في 29 تموز/يوليو 1990 غادرت الكويت لتمضية العطلة في قبرص، على أن أعود في سبتمبر/ أيلول. التقيت فائق عبد الجليل قبل سفري بيومين فتمنّى لي رحلة سعيدة وقال "إلى اللقاء". هكذا شاء وهذه كانت مشيئتي، لكن الغدر كانت له مشيئة مناقضة. في الثاني من أغسطس/آب غزت القوات العراقية أرض الكويت، وما لبثت أن بسطت نفوذها على الدولة الجارة المسالمة. هاجر من هاجر إلى الخارج وكان فائق في عداد الباقين.
طلب منه السفير العراقي أن ينظم قصيدة يمتدح بها الرئيس صدام حسين، وأن يرحب بالجيش القادم من بلاد الرافدين. لم يستجب فائق عبد الجليل للطلب، بل قرر فعل النقيض. توارى عن الأنظار وبدافع الشرف والمبدأ والوفاء لبلده الكويت راح ينظم كلمات أغان تدعو للمقاومة وترفع معنويات الصامدين. وتولى الملحن عبد الله الراشد تلحينها، وتمّ تسجيلها وانتشرت أشرطتها في أنحاء الكويت وتهافت المواطنون على نسخها وتوزيعها. كانت هذه الأغاني بلهجة عامية صرفة، فالمطلوب هو الحشد والتأثير وليس استعراض الجماليات اللغوية. في إحدى الأغاني كتب "جانا الذيب وسَوَّى عصابة/ باق (سرق) وعَضْعَضْ شِنَّه (كأنه) بغابة". وفي أغنية ثانية: "فصيلة دمي تقول كويتي/ ولبنة بيتي تقول كويتي/ ولو قرّب واحد ناحيتي/ يسمع قلبي يقول كويتي". (سنة 2015 صدرت أسطوانة "ملحمة هتاف الصامدين" ضمّت ثماني عشرة من هذه الأغاني).
برغم دعوات أصدقاء كثر، رفض مغادرة الكويت. لكنه خشي على أفراد أسرته من أن يصيبهم شرّ، فأوصلهم إلى الحدود السعودية، على أن يلتقي بهم بعد التحرير. ونظم قصيدة مؤثرة بعنوان "الحدود" حصلت على نسخة منها من ابنه فارس. كتب فائق: "عند الحدود/ ما اقدر أخليهم وأعود/ أمي وأم عيالي/ هم شمس الوجود/ وعيالي في دمي/ وفي صدري ورود (...) لا يا وطن/ لازم أعود/ إنت المحبة ولك بكل شي أجود".
نصب له الجيش العراقي الكمائن. وفي الثالث من يناير/ كانون الثاني 1991 تمّ اعتقاله ومعه الملحن عبد الله الراشد. واقتيد الاثنان مع الأسرى إلى العراق، إلى غياهب السجن. انقطعت أخباره ولم يدرِ أحد شيئا عن مصيره. وبعد تحرير الكويت توالت الأنباء عن الأسرى، تارة تبعث على الأمل وتارة تنشر اليأس. ومرت تسع سنوات. في مقالة كتب الصحافي السعودي عبد الرحمن الراشد نقلا عن عنصر أمن عراقي سابق أنه رأى فائق عبد الجليل سنة 1998 "عند إخراجه من زنزانة تحت الأرض بواسطة سلّم أُدلي به إليه، وشُحن في سيارة إلى جهة مجهولة".
وفي عام 2000 وصل فاكس إلى وزارة الخارجية الكويتية من سفارة الكويت في نواكشوط، صورة رسالة سلمتها شاعرة موريتانية قالت إنها تلقتها من شخص مجهول في بغداد (الأغلب أنه عنصر أمن تعاطف مع الأسير سرًّا). الرسالة بخط فائق عبد الجليل، لكن يتضح أنه متعب من ارتباك الخط أحيانا، ومن تسلسل الكلمات أحيانا أخرى. لكنه يترك لعائلته (والرسالة موجهة لها) علامات تؤكد شخصيته. يذكر أنه لا يعرف الزمان ولا المكان -وهذا منطقي في أسر دام إلى حينه تسع سنوات- لكنه يؤرخ الرسالة 5/5. (وهو تاريخ ميلاده 5 مايو/أيار 1948). ويأتي في سياق الكلام على ذكر اسم ديوانه الأخير "حب العصافير" ويرجو من أسرته أن تبلغ نزار قباني فحوى الرسالة. (لم يكن يعلم أن نزار كان قد توفي قبل سنتين).
كانت السلطات العراقية تنكر أن لديها أسرى، وفي الوقت نفسه تحتفظ بهم على أمل المقايضة ذات يوم. لكن بمجرد بدء غزو القوات الأميركية أرض العراق سنة 2003 أعدمت المخابرات العراقية الأسرى، وبينهم فائق عبد الجليل، برصاصة في الرأس. وفي 2004 عُثر على رفاته في مقبرة جماعية للأسرى الكويتيين قرب كربلاء. وأكّدت الأبحاث الطبية أن رفات أحدهم يخصّه هو. وأعلنت وفاته رسميا في 18 يونيو 2006، ورجّح الطبيب الشرعي أن عمره وقت الوفاة كان بين الثانية والخمسين والثالثة والخمسين. وأقيم له مأتم حضره كبار رجالات الدولة وحشد من أهل الأدب والفن ومن جمهوره الوفي.
رحل فائق عبد الجليل، لكنه بقي خالدا بقصائده المقروءة والمسموعة، وما زال المطربون يختارون منها ما ينشدونه. ولولا النهاية المأسوية لكان الشاعر قد سمع محمد عبده يشدو بكلماته "آخر زيارة" و"الله معاك"، وطلال المداح يطرب جمهوره بقصيدة "طيب"، وخالد الشيخ يغنّي "لو ردّيت" وعبادي الجوهر يؤدّي "عطشان".