غوتنبرغ الـ44: "أهلاً بكم في غرف المعيشة"

غوتنبرغ الـ44: "أهلاً بكم في غرف المعيشة"

29 يناير 2021
روبن أوستلوند: سعفته الذهبية تفتتح غوتنبرغ الـ2021 (توني آن بارسن/ فيلم ماجيك)
+ الخط -

في العام الماضي، نظّم "مهرجان غوتنبرغ السينمائي الدولي" دورة عادية، تزامنت مع وصول الموجة الأولى من وباء كورونا إلى السويد. لكنّه لم يصمد أمام الموجه الثانية. اجتاحته هذه المرّة، وأجبرته على تنظيم دورة رقمية (أونلاين). لذلك، فإنّ جهداً كثيراً ـ بُذل في التحضير والاستعداد اللذين سبقا قرار التحوّل من "الواقعي" إلى "الافتراضي" ـ ذهب أدراج الرياح.

كان على منظّمي المهرجان العمل بسرعة، للتلاؤم مع قرار التغيير. ولأنّهم اعتادوا الابتكار والتجديد، كان عليهم إيجاد مقاربات تتوافق مع المسار الجديد. أعطوا الدورة عنواناً دالاً على ظروف إقامتها: "دورة التباعد الاجتماعي". للأفكار الجديدة، المُقترحة للتعبير عن علاقة المُشاهد بالسينما في زمن الإغلاق، وجدوا عنوان "سينما العَزِل" مناسباً لها. قرّروا تجسيد العزلة السينمائية بأشد معانيها، باختيار أحد عشّاق السينما يقبل طواعية تمضية 7 أيام من الدورة الـ 44 (29 يناير/ كانون الثاني ـ 8 فبراير/ شباط 2021) للمهرجان في مكانٍ معزول، يشاهد أثناءها وحده 60 فيلماً، ولا يخرج منه، ولا يخالط أحداً غير الأفلام، "رفيقه الوحيد" في عزلته التطوّعية.

اختارت إدارة المهرجان 3 أمكنة للعزلة السينمائية: منارة "باتر نوستر"، الواقعة على جرف صخري يُقابل مياه البحر المعتم؛ وملعب هوكي الجليد (سكندنافيوم)، يمضي فيه المتطوّع، وحده، أسبوعاً كاملاً، ويشاهد من على مدرّجاته، عروض الشاشة التي تبثّ أفلام الدورة بحسب مواقيتها، أما العاشق الثالث، فعليه مُشاهدة الأفلام في قاعة سينما "دراكين" (التنين). لا أحد ينافسه على مقاعدها، فهي له وحده بالكامل.

 

 

فراغ القاعة نفسها يشي بالخسارات الكبيرة للمهرجان جرّاء التغيير، مثلما تُفتِر مراجعة برامج الدورة البهجةَ المصاحبة لتلك المقاربات التجديدية، المعبّرة عن العزلة السينمائية. لا يستنكف منظّموها عن البوح بها، والدعوة إلى تجاوز صعاب هذه الدورة بأقلّ الخسائر.

رمزياً، دُعي جمهور المهرجان إلى ملء قاعة "التنين"، قلب المهرجان، وإحدى أكبر القاعات في العالم، وأجملها. تُنَظّم فيها، سنوياً، حفلات الافتتاح والختام، وتُعرض أغلب أفلام المسابقة، والـ"غالا" تعرض على شاشتها أيضاً. على سجادتها الحمراء، يمشي الضيوف. في عام الجائحة، ستكون مقاعدها فارغة تماماً، ما يعني حرمان المهرجان من دخلٍ مادي مهمّ، لأنّه ـ رغم الدعم الرسمي السخي له ـ كان يُغطّي جزءاً من مصروفاته من بيع بطاقات عروض الأفلام، وهي كثيرة. هذا العام، خسر الكثير منها، وللتعويض عنها أطلق مبادرة أسماها "دعم شراء مقاعد" خاصّة بعروض الأفلام، التي ستُقام في القاعة نفسها، لكنْ رقمياً، ويُشاهدها المشتركون في منازلهم. مبادرة تطوعية، وصفها المهرجان بأنّها مهمّة جداً لديمومته، ولإظهار مدى حبّ الناس للسينما، واعتزازهم بالقاعة التاريخية.

استحدثت الدورة أقساماً، وألغت أخرى قديمة، منها "قارات العالم"، القسم الذي كُرِّس طيلة سنوات لاستيعاب جديد سينمات العالم وقاراته، التي كانت دائماً موضع اهتمام الجمهور السويدي. التعويض النسبي عنها نجده في "مسابقة إنغمار برغمان". من بين المتبارين على نيل جوائزها، الفيلم الصيني "ماما" للمخرج لي دونغمي، والبنغلاديشي "الملح في مياهِنا" لرزوان شهريار سوميت، والدومينيكاني (تُساهم قطر في إنتاجه) "ليبوريو".

هناك أيضاً "نظرة مقرّبة: التباعد الاجتماعي" و"سينما الإغلاق": قسمان مستحدثان، صلتهما مباشرة بثيمة الدورة. القسم الأول مُخصّص للأفلام التي تتناول ظواهر العزل والتباعد، كالبريطاني "زمن للتوقف" لأليستاير موريسن، والوثائقي الإيطالي "موليكوليس" لأندريا سيغري. أفلام القسم الثاني جاءت من مبادرات أطلقتها مهرجانات سينمائية عالمية، كـ"فضاء"، التي دعا فيها "مهرجان تسالونيكي" السينمائيين المشاركين فيها لتصوير حصارهم. بالإضافة إلى المبادرة النرويجية، "كبسولة الزمن".

الحرص على الاحتفاظ بهويته الشمالية، وعلى أنْ يظلّ من بين أفضل مهرجاناتها ورعاتها، يظهر جلياً في انتقاء مسابقاتها الخاصة بالفيلم الشمالي، روائياً ووثائقياً، بل بأفضل ما أُنتج مؤخّراً، ولم يذهب إلى بقية المهرجانات العالمية. للافتتاح، اختير "توفه" للفنلندية زايدا بيريغروث، الذي يتناول جوانب من حياة الفنانة التشكيلية، أكثر مبدعي فنلندا شعبية، توفه يانسون. أفلام المسابقة الدولية اقتصرت على 6 فقط، ما يشير إلى تقلّص كبير في حجم المعروض هذا العام.

من فعاليات الدورة الجديدة، منح "جائزة التنين الفخرية" سنوياً لسينمائي مُتَميّز. اختير المخرج السويدي روبين أوستلوند، صاحب "المربع"، الفائز بالسعفة الذهبية في الدورة الـ70 (17 ـ 28 مايو/ أيار 2017) لمهرجان "كانّ" السينمائيّ: "إنّ نظرة أوستلوند الاستكشافية للسلوك البشري، والقدرة على وضع شخصياته في بوتقة معضلات أخلاقية عميقة، وشجاعته في التعامل مع مواضيع إشكالية، جعلته أحد أبرز صانعي الأفلام في منطقة الشمال، وجعلت أفلامه، ذات الطابع العالمي، ترجمةً للطبقة الوسطى الغربية الحديثة". بهذا، برّر منظّمو الدورة أسباب منحه الجائزة.

الحسرة على ضياع دورة "واقعية"، رغم كلّ ما جرى تفاديه من خسائر، تُجَنِّب السينما الخنوع الكامل للجائحة، وتُكثّفها عبارات وردت في كلمة المدير الفني للمهرجان، يوناس هولمبَري، مخاطباً بها جمهوره، في افتتاحية الـ"كاتالوغ": "سيبقى الشعور بالفراغ محسوساً هذا العام. سنفتقد وجودكم في صالات العرض. لكنْ، سيكون مُمتعاً أيضاً أنْ نأتي نحن إلى بيوتكم. إلى اللقاء إذاً في غرف المعيشة، أمام شاشة التلفزيون".

المساهمون