عن الريادة الألمانية... جولة نقدية في بلاد الموسيقى

عن الريادة الألمانية... جولة نقدية في بلاد الموسيقى

03 يناير 2021
تشكّلت في الممارسة الاجتماعية أنماط من الأذواق الموسيقية تتطابق مع الانقسام الطبقي (Getty)
+ الخط -

"بلاد الموسيقى"، هذا ما يقال عن أوروبا، وبالذات عن ألمانيا، عندما نتحدث عن الموسيقى الكلاسيكية الغربية. مع شيوع الرأي القائل بـ "عالمية الموسيقى الكلاسيكية" في بلداننا العربية، ومع اكتساب هذه الموسيقى بالتحديد مكانة رئيسية في مؤسساتنا الرسمية للتعليم الموسيقي، تبدو البلدان الغربية فعلاً "بلاداً موسيقية".

وإذا كنّا قد ألفنا هذه النظرة عن الموسيقى الغربية في بلداننا، بصفتنا أجانب، فمن المثير للاهتمام أن نلقي نظرة إلى ميدان الموسيقى الكلاسيكية بعيون الغربيين أنفسهم. سيكون مثيراً للمفاجأة حينها أن نعرف أن الرأي القائل بأن البوليفونيا -أي تعدد الأصوات- هي قمّة الحرفية، لم يسُد في بلادنا فقط، وإنما في أوروبا أيضاً، وبالذات منذ القرن الثامن عشر. وسيكون مثيراً للاهتمام أيضاً، معرفة أن سمعة ألمانيا، بكونها رائدة في مجال الموسيقى الكلاسيكية، سادت خصوصاً بعد توحّدها عام 1871.

إن الزعم بأنّ مكاناً ما هو "بلاد الموسيقى"، إنّما هو في الحقيقة برهان عما يكتنزه هذا التقليد الموسيقي الغربي من أيديولوجيا عابرة للبلدان حول "عظمة" هذه الموسيقى و"سموّها".

تكتنف هذه الأيديولوجيا أيضاً "عظمة" عابرة التاريخ، بمعنى أن ماضي هذه الموسيقى يبدو مؤكّداً لحاضرها. بالتالي، عندما نطرح السؤال حول سبب "الريادة" الألمانية للموسيقى الكلاسيكية، قد يتّخذ البعض المساهمات التاريخية للألمان والنمساويين في الموسيقية الغربية الكلاسيكية حجّة على "الريادة" في الوقت الراهن.

لكن هذه المحاججة لا تعدو عن كونها إعادة صياغة أخرى للسؤال حول سبب هذه "الهيمنة". فماضي التقليد ليس كحاضره، والشائع عن "ريادة ألمانيا" للتقليد الموسيقي الغربي اليوم لا يعني استمراريّتها من الماضي وحتى اليوم. إنّ محط اهتمامنا مع ذلك ليس تجريد الموسيقى الغربية من جماليّاتها الموسيقية، فإلقاء نظرة اجتماعية نقدية لهذه الموسيقى لا يتعارض مع إعجابنا بها. لكننا نعتقد أن العودة إلى السياق الاجتماعي التاريخي الذي أتت به، يمكنه أن يفسّر سمعة ألمانيا في ريادتها هذه من جهة، وأن يبيّن، من جهة أخرى، أنّ انتقال هذا الإرث الموسيقي إلى البلدان غير الأوروبية، كالبلدان العربية، لا يقتصر على الموسيقى نفسها، بل أيضاً على الأساس الأيديولوجي الذي يشكّلها.

يمكن تقفّي أثر ما يسمّى بـ"الهيمنة" أو "الريادة الألمانية" على الموسيقى الكلاسيكية في سياق التطورات التاريخية في أوروبا خلال القرنين الثامن والتاسع عشر. حينها، بدأ التقليد الموسيقي بالتشكل في المراكز الثقافية في أوروبا، كـ فيينا وباريس ولندن، في وسط تغيّرات اقتصادية وسياسية عامّة.

من أهم تلك التغيّرات، كان تشكّل الطبقة البرجوازية ترافقاً مع اضمحلال نفوذ الطبقة الأرستقراطية. ومثلما أن هذا التغير رافقه نشوء السوق بالمعنى المعاصر للكلمة، كان سوق الموسيقى جزءاً من هذا السوق العام. نتج عن هذا تحوّل العلاقة بين الأرستقراطيين والموسيقيين من التبعية الكاملة إلى الحرية النسبية، فما عاد الموسيقي يعتمِد مشكل مباشر على علاقاته بالساحات الأرستقراطية من أجل أن يستقر مادّياً ويبني سمعته. والحقيقة أنه مع نشوء صالات العرض الكبرى ودور النشر للموسيقى وبروز النقاد الموسيقيين، وتزايد بيع وشراء الآلات الموسيقية، بات للموسيقي هامش من الحرية في تسويق أعماله وتطوير أسلوبه الموسيقي.

مع تعدّد الإنتاج الموسيقي في ذاك الواقع الطبقي الجديد، برز الفرق الاجتماعي بين الموسيقى "الجدّية" و"الخفيفة". فمقابل الحفلات التي كان يتم فيها عرض موسيقى القرون السابقة، كـ باخ وموزارت وهاندل، وبعض الأعمال المعاصرة آنذاك - بالذات أعمال بيتهوفن- بات هناك أيضاً كاباريهات وعروض موسيقية مواضيعها يومية وجنسية وفكاهية. ما حصل أنه تشكّلت في الممارسة الاجتماعية، أنماط من الأذواق الموسيقية تتطابق مع الانقسام الطبقي؛ فغالباً ما كانت العروض المذكورة آنفاّ، مرتادة من الطبقة الشعبية، أما أبناء الطبقتين البرجوازية والأرستقراطية، فكانوا يرتادون عروضاً موسيقية يتم فيها تقديم أعمال من القرون السابقة.

في الأقاليم الألمانيّة، وبالذات في القرن التاسع عشر، أعطت البرجوازية الألمانية ذات الاتجاه السياسي القومي آنذاك أهمّية كبرى للموسيقى بصفتها من مشكّلات الثقافة الألمانية. هذا البعد السياسي للموسيقى يمكن أن يُقرأ في أدبيّات ذاك الوقت الذي ترد فيه أقوال عن "فطرة الألمان في الموسيقى" و"العبقرية الألمانية".

بهذا المعنى، أصبحت الموسيقى الألمانية بالنسبة للألمان منذ بداية القرن التاسع عشر تعبّر عن الوحدة الألمانية، حتى قبل التوحّد الفعلي لألمانيا. أما منظور البرجوازية إلى الموسيقى، أو بتعبير آخر المنظور إلى الموسيقى الذي كان مهيمناً آنذاك، يمكن إرجاعه إلى الأسس الفلسفية للقومية الألمانية، والتي تعود إلى التيّار الفكري الرومنطيقي الألماني في القرن الثامن عشر. من هذا المنطلق، هيمن اعتبار الموسيقى الآلية، أي تلك التي لا تحتوي كلمات، "أعلى درجات التجريد" وذات صفة "مطلَقَة"، أي "غير قابلة للتفسير".

كما أن اكتساب الموسيقى أهمّية قوميّة عند الألمان، هو ما قد يفسّر منوال تطوّر العلوم الموسيقية في الحقل المؤسساتي الألماني بالذات بعد توحّد ألمانيا. فالاتجاهات البحثية الرئيسية آنذاك تمثّلت بتوثيق الأعمال الموسيقية التي يمتد تاريخها إلى عدّة قرون سابقة. أما في ميدان علم الموسيقى؛ فكان تحليل هذه الأعمال موسيقيّاً هو النهج الأكثر اعتماداً. من هنا، كان اعتبار البراعة التأليفية وحدها معيار تصنيف الأعمال الموسيقية، باعتبار أن البوليفونيا أعلى درجات الحرفية الموسيقية.

هذا التأثير الألماني في إرساء توجّه بحثي في العلوم الموسيقية، وفي تشكيل مفهوم الموسيقى الكلاسيكية، كما نعرفه اليوم، هو حديث نسبيّا، وقد أتى في سياق تشكّل التقليد الموسيقي الغربي عامّةً. فقد ساهمت البرجوازية الألمانية بأيديولوجيتها القوميّة ومنظورها الرومنطيقي إلى الموسيقى في بلورة تقليد الموسيقى الغربية بمفهومه الحديث؛ أي بكونه يعتمد قوانين أصيلة (Canon)، وبالتالي اعتباره يضم "أعمالاً عظيمة" لموسيقى "تتوجّه لكل الإنسانية جمعاء".

وحيث إن سائر بلدان العالم، وليس فقط البلدان العربية، أخذت عن الغرب هذا التقليد الموسيقي وتبنّته حتى في برامج تعليمها الموسيقي، نعتقد أن هذه الاستعارة لم تقتصر فقط على الموسيقى نفسها، ولكنها شملت أيضاً الأيديولوجيا المرافقة لها. بالتالي، فإن استرجاع تاريخ هذه الموسيقى، لا يمكّننا فقط من تقديرها بمعزل عن السلطة الرمزية التي تمتاز بها، خصوصاً خارج أوروبا، وإنما يفيدنا حتى -في موقفنا كأجانب عن هذه الموسيقى تبنّوا ولأسباب عدّة تاريخية هذه الموسيقى الغربية في مؤسساتهم التعليمية- في فهم أصول النقاشات والآراء المطروحة اليوم في الحقل الاجتماعي للأكاديميا الموسيقية العربية.

فبعد مرورنا السريع على صيرورة التقليد الموسيقي الغربية، نعتقد أنه من المفيد العودة إلى أكثر النقاشات تداولاً في محيط الموسيقيين العرب، بالذات أن إنشاء المؤسسات الرسمية الموسيقية في بلداننا العربية هو مسألة "تفوّق" الموسيقى الكلاسيكية الغربية على الموسيقى العربية.

نعتقد أنه من المثير للاهتمام أن الحجج الداعمة لـ"تفوّق" الموسيقى الغربية على الموسيقى العربية، إنّما تتلاقى مع الإرث الأيديولوجي الذي صاحب ذلك الإرث الموسيقي الأوروبي، مثل اعتبار "الموسيقى من دون كلام أعلى درجات التجريد"، وأنها بهذا المعنى "عالمية"، واعتبار البوليفونية "أقصى درجات الحرفية الموسيقية".

وبرأينا، فإنّ وضع هذه الحجج والحجج المقابلة لها في السياق التاريخي العلمي والاجتماعي الذي أتت به، يمكّن من تخطّي التحزّب الأيديولوجي أو الرأي الموسيقي الصرف في مسألة "تفوّق" الموسيقى الغربية من عدمها، وفي تحديد ماهيّة تقليد الموسيقى العربية.

لقد رأينا إذن أنّ التقليد الموسيقي الغربي يضم مساهمات موسيقية وعلمية من أنحاء أوروبا، إلا أن خصوصيّات التطورات الموسيقية الاجتماعية في ألمانيا، قبل وبعد توحّدها في القرنين الثامن والتاسع عشر، ساهما في وضع الأسس الأيديولوجيّة المصاحبة للموسيقى الغربية الأوروبية، والتي ساهمت في تشكيلها على أنها "تقليد واحد متماسك، أعلامه مؤلّفون عظماء، وهي بذلك أعلى درجات الحرفية الموسيقية". هذه المساهمة الأساسية، بما فيها من خطاب ألماني عن "العبقرية الموسيقية الألمانية"، قد يفسّر جزئيّاً سمعة ألمانيا عن "ريادتها" للموسيقى الغربية الكلاسيكية.

المساهمون