عن "كانّ" والدورة المُنتظرة: تفاؤلٌ خفِر وتحدّياتٌ جمّة

عن "كانّ" والدورة المُنتظرة: تفاؤلٌ خفِر وتحدّياتٌ جمّة

07 يونيو 2021
نبيل عيّوش: سجالات لا تنتهي (فاضل سِنّا/ فرانس برس)
+ الخط -

يخطو مهرجان "كانّ" السينمائي خطواته المعتادة. إعلانات متتالية تختصّ بكل ما يرتبط بدورات جديدة، يُفترض بها أنْ تُقام سنوياً في شهر مايو/ أيار. المتغيّرات، مؤخّراً، قليلة. وباء كورونا سببٌ وحيد لارتباكٍ، تحاول إدارة المهرجان إزالته هذا العام. تأجيل الدورة الـ73 (12 ـ 23 مايو/ أيار 2020) إلى يونيو/ حزيران ـ يوليو/ تموز 2020 غير ناجِزٍ. البديل، حينها، متمثّل بـ3 أيام (27 ـ 29 أكتوبر/ تشرين الأول 2020)، مع تسميةٍ استثنائية: "خاص كانّ 2020".

كلّ شيء يستمرّ كالعادة. التحضيرات واجِبة. تحديد مواعيد رديفة للموعد المعتاد مُلحّ. الوباء يزداد شراسةً، وإغلاق تلو آخر، في فرنسا وأوروبا والعالم، يحول دون رؤية سليمة للمقبل من الأيام. في 19 مايو/ أيار 2021، تُفتَح صالات سينمائية كثيرة في فرنسا، والفرنسيون يرتادونها بأعدادٍ كبيرة (300 ألف مُشاهد في اليوم الأول. نحو مليونين اثنين في الأيام الـ10 الأولى). 450 فيلماً تنتظر قرار الإفراج عنها، والبرمجة غنيّة بعناوين ومواضيع ونجوم واشتغالاتٍ.

عشية هذا اليوم "المجيد"، بالنسبة إلى المُشاهدين، يصعب تحديد موعد الدورة الـ74 لمهرجان "كانّ" في الشهر المختار منذ سنين طويلة (مايو/ أيار). الموعد الجديد قائمٌ بين 6 و17 يوليو/ تموز 2021. إلى الآن، ستُقام الدورة فيه. السلطة الرسمية في فرنسا تُريد تخفيفاً كبيراً لإجراءات العزلة والإغلاق و"منع التجوّل". هذا يُفيد المهرجان. كثيرون يتمنّون جلاء كورونا نهائياً. كثيرون يريدون المهرجان في موعده السنوي، لكنْ لا بأس: إقامته في أيّ موعدٍ آخر أفضل من إلغائه، وإنْ يكن الإلغاء مؤقّتاً.

 

تساؤلات وتطلّعات

السينمائي الأميركي سبايك لي (1957) باقٍ في منصبه، رئيساً للجنة التحكيم الدولية للمسابقة الرسمية. التفاصيل تصدر تباعاً. تييري فريمو (1960)، المندوب العام للمهرجان، يقول إنّ الدورة الجديدة ثابتة في موعدها الجديد. يعقد مؤتمراً صحافياً رفقة بيار لاسكور (1945)، رئيس المهرجان (3 يونيو/ حزيران 2021)، للإعلان عن مسائل عدّة: أفلامٌ ومسابقات وبرامج؛ ابتكار أقسامٍ جديدة؛ آليات اشتغال في زمن كورونا، فالفحوصات المُلزمة (PCR تحديداً) ستُقام كلّ 48 ساعة، مجاناً. يتساءل البعض عن مصير أصحاب النتيجة الإيجابية، خصوصاً إنْ يكن السائلُ أجنبياً. هناك أموالٌ تُدفع لحضور الدورة (وسائل سفر، إقامة، مصاريف يومية، إلخ.). يسخر أحدهم: "إنْ تكن النتيجة إيجابية، هل يُسمح لي بمتابعة المهرجان.. فيسبوكياً؟".

في تقرير لوكالة "فرانس برس" (31 مايو/ أيار 2021)، يقول كاتبه فرنسوا بيكِر إنّ الدورة المنتظرة ستجمع آلاف المهنيين في شؤون السينما، الذين سيأتون من دول مختلفة، "سعداء بتواجدهم (في المهرجان) بعد إلغاء الدورة الماضية". يقول إنّ شيئاً لن يفرض التمسّك بأعداد المُشاهدين في الصالات (استخدام 50 في المائة أو أقلّ بقليل من عدد المقاعد)، إنْ يستمرّ العمل بقرار الحكومة فكّ العزلة الصحّية: "لكنّ تقديم بطاقة صحّية (التلقيح وفحوصات PCR سلبية) ستكون مطلوبة". يُقدِّم التقرير نفسه صورة أولى عن مشهد المهرجان، أفلاماً وحضوراً. يتساءل كاتبه: "من الذي سيمشي على السجادة الحمراء؟ هل سيأتي الأميركيون في الموعد المحدّد؟ كيف سيُوفَّق بين الكمامات و"زينة" الحفلات، بين سهرات الكوكتيل والتباعد الصحّي؟". التساؤلات واقعية. الإجابات غير واضحة. إقامة الدورة المقبلة في موعدها كفيلةٌ بتبيان المشهد برمّته.

 

 

من جهته، يكتب جاك ماندلبوم (الموقع الإلكتروني للصحيفة اليومية الفرنسية "لو موند"، 3 يونيو/ حزيران 2021) أنّ كورونا يُطيح بدورة عام 2020، مُحوِّلاً الحياة العادية للاستثمار السينمائي إلى "منطقة شبه صحراوية"، في عامٍ كامل. لكنْ، رغم هذا، "أيُمكننا التحدّث عن عودةٍ إلى الطبيعيّ والعاديّ؟ نحن غير واصلين إلى هذا بعد. المتحدّثون جادّون ومتوتّرون وسريعو الانفعال والغضب، في بعض الأوقات. التعب الحاصل في ذاك العام الاستثنائيّ يجعل نفسه محسوساً. لكنّ الأهمّ كامنٌ هنا: باستثناء تفشّي نسخة خبيثة للغاية (من كورونا)، سُتقام الدورة الـ74، ونحن نعرف من الآن ما الذي سترتديه (بمعنى آخر: أي شكلٍ ستكون عليه)".

23 فيلماً جديداً تُعرض في المسابقة الرسمية، وفيلمٌ فرنسي يفتتح الدورة الـ74: "آنيت" لليو كراكس. البرنامج غنيٌّ بعناوين، بعضها مُتنَاوَلٌ في صحفٍ ومراجعات وأخبارٍ، وبعضها الآخر يصنع "صيتاً" له قبل عرضه، بسبب موضوعه، أو بفضل مخرجه المُثير لسجالاتٍ سابقة. أبرز هؤلاء الهولندي بول فرهوفن (1938). جديده مُتدَاوَلٌ منذ اختياره للدورة الماضية: "بول فرهوفن يُقدِّم رؤية إيروتيكية وطريفة، وسياسية أيضاً، للقرون الوسطى، في إخراج فخمٍ" (تييري فريمو، حوار مع نيكولا شالّر، منشور في المجلة الأسبوعية الفرنسية "لونوفيل أوبسرفاتور"، 10 مايو/ أيار 2020). الحكاية مستلّة من وقائع تاريخية، مكتوبة في رواية "أفعال غير مُحتشمة ـ حياة راهبة مثلية الجنس في زمن النهضة" (1986) للأميركية جوديث سي براون. الراهبة تُدعى بينيديتّا كارليني (1591 ـ 1661). أفعالٌ عدّة تُثير غضباً عليها. هناك تداخل بين السياسة والكنيسة والعلاقات الجنسية وثقافة الإصلاح وتقاليد البيئة الاجتماعية حينها. فرهوفن بارعٌ في اقتناص تفاصيل كهذه، صانعاً منها نتاجاً سينمائياً، يُتوقّع أنْ يُشبه أفلاماً سابقة له، المثيرة لنقاشاتٍ مختلفة.

 

عن الجندرية و"نتفليكس"

4 مخرجات فقط يُشاركن في المسابقة نفسها: الفرنسيات كاترين كورسيني (1956) مع La Fracture، وجوليا دوكورنو (1983) مع Titane، وميا هانسن ـ لاف (1981) مع Bergman Island، والهنغارية إلْديكو إنْيادي (1955) مع "قصّة امرأتي". كلّ كلامٍ عن التساوي الجندري مُكرّر ومُملّ، إذْ يُفترض بالاختيارات أنْ تنبثق من جودة الفيلم، أو من "رغبةٍ" في استضافة مخرج/ مخرجة له علاقة سينمائية قديمة بالمهرجان، والأخير يُفضِّل الحصول على أول عرضٍ عالمي لجديده. رغبةٌ، يقول متابعون للمهرجان ـ منذ سنين مديدة ـ إنّها مُطعّمة بجودة سينمائية، غالباً. هذا حاصلٌ مراراً، رغم أنّ نقّاداً وصحافيين ومهتمّين يُصابون بصدمةٍ سلبية أحياناً، فالأسماء الكبيرة غير مُنجزةٍ أفلاماً كبيرة ومهمّة، دائماً. الاتّكاء على الاسم فقط مخاطرة، لكنّ بعض الوفاء جميلٌ، و"كانّ" ـ كمخرجين ومخرجات عديدين ـ يلتزمونه مراراً.

كلّ فيلمٍ قابلٍ لإثارة جدلٍ أو نقاشٍ. كلّ سينمائيّ أو سينمائيّة أيضاً. لبعض المشاركين في المسابقة الرسمية حضورٌ أساسيّ في الصناعة والمشهد والصِدامات. كثيرون ينتظرون كلّ جديد لهم ولهنّ. يتشوّقون لمفاجأة، يقولون إنّها لا بُدّ حاصلة (يريدونها إيجابية دائماً، لكنّ السلبيات حاضرةٌ أحياناً). المواضيع تكون غالباً حسّاسة وواقعية، لتَمَكّنٍ سينمائيٍّ من تحويلها إلى مداخل، تقود إلى عوالم وتشريحٍ وتعرية. إلى ليو كاركس، هناك الأميركيان وس أندرسن (1969) وشون بن (1960)، والإيطالي ناني موريتي (1953)، والفرنسي جاك أوديار (1952)، والإيرانيّ أصغر فرهادي (1972)، والتشاديّ محمد صالح هارون (1961)، والروسي كيريل سربرنّيكوف (1969)، والتايلندي أبيشاتبونغ فيراستاكول (1970). اشتغالاتهم تُجدِّد في مقاربة أحوال الناس والعالم. هواجسهم جمالية ودرامية وفنية، تتوافق واختباراتٍ دائمة في صُنع مختلفٍ وجديدٍ، أو محاولة صُنعه. تجوّلهم في عوالم ونفوس وعلاقات، وفي أسئلة مُعلّقة، جزءٌ من اختباراتهم تلك. هذا متأتٍ من قديمٍ لهم. الجديد ينكشف في الدورة الـ74.

غير أنّ النيوزيلاندية جاين كامبيون (1954)، السينمائيّة الوحيدة الحاصلة على "السعفة الذهبية" في "كانّ"، عاجزةٌ عن إشراك فيلمها الجديد في دورة 2021. سبب ذلك؟ المنصّة الأميركية "نتفليكس". الودّ مفقودٌ بين المنصّة والمهرجان. عام 2017، يُتيح المهرجان للمنصّة فرصة عرض فيلمين لها في المسابقة الرسمية. هذا يُثير غضباً كبيراً في نفوس موزّعي الأفلام وأصحاب الصالات، فالمهرجان ـ باختياره فيلمي "حكايات مايروفيتز" للأميركي نواه بومباخ (1969) و"أوكجا" للكوري الجنوبي بون جون ـ هوو (1969) ـ يخالف قانوناً فرنسياً، معمولاً به منذ سنين: كلّ فيلمٍ يُعرض في المسابقة الرسمية، يجب أنْ يُعرض في الصالات السينمائية بعد انتهاء الدورة. العرض في الصالات مخالف لمبدأ المنصّة، التي تعثر في "مهرجان فينيسيا" على متنفّس. فـ"لا موسترا" مُتسامح في هذا المجال.

 

 

ينفُض تييري فريمو عن المهرجان "تهمة" عدم التعاون مع "نتفليكس". يُشدِّد على التزام "كانّ" قوانين التوزيع والعروض في فرنسا. هناك فيلمان جديدان (2021) لـ"نتفليكس": The Power Of The Do لكامبيون، وBlonde للأسترالي (ذي الأصل النيوزيلنديّ أيضاً) أندرو دومينيك (1967): "نحن غير رافضين لأفلام "نتفليكس"، بل "نتفليكس" غير راغبةٍ في هذا، أو غير قادرة. دعوتنا لها تهدف إلى عرض أفلامها خارج المسابقة. الرفض إجابة"، يقول فريمو (الموقع الإلكتروني الأميركي "ديدلاين"، 4 يونيو/ حزيران 2021). يُكرّر ما هو معروف: المنصّة تريد مشاركةً في المسابقة لا خارجها. هذا غير واردٍ، لأنّ كلّ فيلمٍ يُشارك فيها يجب عرضه تجارياً في الصالات الفرنسية. هذا ترفضه المنصّة. للتذكير: كامبيون حاصلة على "السعفة الذهبية" لـ"كانّ" عن "البيانو" (1993)، مناصفة مع الصيني تشان كايج (1952) عن "وداعاً خليلاتي"، في الدورة الـ 46 (13 ـ 24 مايو/ أيار 1993).

 

عرب "كانّ"

المغربيّ الفرنسيّ نبيل عيّوش (1969) أحد المشاركين في المسابقة الرسمية للدورة المُنتظرة. اختيار جديده، Casablanca Beats، مُثير لاحتفاءٍ مغربيّ بعودةٍ "وطنية" إلى "كانّ". عربٌ كثيرون يريدون مناسباتٍ كهذه، لاحتفاءٍ بصناعة محلية. يُحيلون فيلماً إلى البلد الأصلي لمخرجه/ مخرجته، ويتناسون أنّ الفضل الأول والأخير على صُنع فيلمٍ عائدٌ إلى صانعه، وإنْ يحصل صانعه على إنتاجٍ أو تمويلٍ من بلده. الحسّ الوطني، في حالةٍ كهذه، نافرٌ. يبدو إلغاءً لجهدٍ كبيرٍ يقوم به مخرجٌ أو مخرجة، رفقة عاملين وعاملات في المهنٍ السينمائية.

العرب مُحبَطون ومُتعبَون. حضورٌ سينمائيّ كهذا مطلوب وضروري، إذْ لا بأس بفرحٍ قليل. هذا غير محصورٍ بـ"كانّ"، أو بنبيل عيّوش. كلّ سينمائيّ/ سينمائيّة من بلدٍ عربيّ يستدعي احتفاءً كهذا، عند مُشاركته في مهرجان، أو لبلوغه مرتبة أولى أو ثانية أو نهائية في جوائز دولية. لكنّ المأزق كامنٌ في حالةٍ أخرى، فبعض الواصلين وغير الواصلين إلى مهرجانات أولى، وجوائز دولية أساسية، غير مرغوبٍ فيه، محلياً و"وطنياً". مُحتفلون باختيار جديد عيّوش في "كانّ 2021" ربما هم غير أولئك الذين يهاجمون أفلامه، متمسّكين بأخلاقٍ وتقاليد، وفارضين محرّمات وقواعد. لكنْ، أيعرف المحتفلون أنفسهم ماهية جديد عيّوش، مضموناً ولغةً ومعالجةً واشتغالاتٍ؟ أسيبقون محتفلين به بعد المُشاهدة، أم سينضمّون إلى مهاجميه ورافضيه، أم سيتمكّنون من إيجاد المعادلة "السحرية" بين احتفاءٍ بنصرٍ سينمائي كهذا (اختيار فيلمٍ في مهرجان دولي)، وتمكّن فعلي من نقدٍ سوي؟

في المقابل، يفتّش عربٌ عديدون عن أفلامٍ عربيّة مختارة، لاحتفاءٍ بها إنْ يعثروا عليها أو على بعضها؛ أو لندبٍ علنيّ وتقريعٍ مبطّن إزاء غياب السينما العربية عن "كانّ"، أو عن غيره من المهرجانات الدولية. عدم الاختيار لا يعني انعدام نتاجٍ سينمائيّ عربيّ، "جيد" أو "غير جيد". المسألة مرتبطة بمزاجية لجان الاختيار، وسياسات المهرجانات واهتماماتها في كلّ دورة. هناك أسماء شبه ثابتة؟ هذا أكيد. هناك رغبة في أنْ يحصل هذا المهرجان أو ذاك على "أول عرض" لهذا المخرج أو لتلك السينمائية؟ هذا أكيد أيضاً. إيجاد تعادل بين اسمٍ وقيمة سينمائية لفيلمٍ جديد؟ هذا حاضرٌ غالباً. غياب أفلامٍ عربيّة منبثق من هذا كلّه، تماماً كوجود بعضها. "حسابات" المهرجانات وهواجس مسؤوليها تختلف كلّياً عن رغبات عربية. هذا ينسحب على سينمات كثيرة في قارات العالم. هذا لا علاقة له بـ"مؤامرة غربية" ضد السينما العربية، أو بـ"تنازلات عربية للرجل الأبيض".

شهرٌ واحدٌ يسبق افتتاح الدورة الجديدة هذه، إنْ تبقى الأمور الإيجابية على حالها. عندها، يكتشف المهتمّون مصير المهرجان الأحبّ إلى قلوبهم وعقولهم: هل سيُكرِّر نفسه كالعام الفائت (تأجيل ثم إلغاء ثم دورة خاصة في 3 أيام)؟ أم سيختار التحدّي، فيُثبت للجميع، ولـ"مهرجان فينيسيا" تحديداً (دورته الـ77 مُقامة واقعياً بين 2 و12 سبتمبر/ أيلول 2020، رغم تفشّي كورونا في إيطاليا حينها، مع التزامٍ صارم بشروط السلامة الصحّية، ووضع الكمامات، واعتماد التباعد في الصالات وأروقتها، والمقرّ العام للمهرجان)، قدرته على استعادة حضوره في المشهد السينمائيّ؟ أم يلجأ إلى نموذج "مهرجان برلين السينمائي ـ الدورة الـ71" (مُقامة افتراضياً بين الأول والخامس من مارس/ آذار 2021)؟

المساهمون