استمع إلى الملخص
- الشاعر عمر أبو ريشة، وُلد في عكا عام 1910، عاش في سوريا وتعلم في حلب وبيروت ومانشستر، وبدأ مسيرته في وظائف حكومية قبل أن ينجح في الدبلوماسية، حيث عمل في عدة دول وكان معروفاً بثقافته الواسعة.
- اشتهر أبو ريشة بشعره الغزلي والسياسي، حيث انتقد الأوضاع بجرأة، واستمر في كتابة الشعر بعد تقاعده في بيروت، معبراً عن آرائه بوضوح.
بين المسرح والإذاعة والموسيقى، قضى فارس يواكيم (1945، مصر) عقوداً من حياته مواكباً ومؤرّخاً ومشاركاً في أبرز محطات المشهد الفني العربي في القرن الماضي، وشاهداً على التحوّلات في عالم الفن. تنشر "العربي الجديد" مذكرات يواكيم مع أبرز الفنانين والمنتجين والمخرجين والصحافيين العرب، مستعيدة محطات شخصية ولقاءات مع هؤلاء في القاهرة وبيروت وباريس، وغيرها من العواصم
ذُكر في مراجع أدبية، وتناقلت وسائل التواصل المعلومة عشوائياً، أن الشاعر عمر أبو ريشة وُلد في منبج بسورية. واستناداً إلى ما سمعته شخصياً من الشاعر، أجزم أنه ولد سنة 1910 في بيت جدّه لأمّه، آل اليشرطي، في عكا بفلسطين. آنذاك كان أبوه شافع أبو ريشة منفيّاً إلى الأناضول. وبعدما ألغى العثمانيون حكم النفي عُيِّن قائمقام منبج، فانتقلت الأسرة إليها وفيها أمضى عمر أبو ريشة سنوات الطفولة. لم تكن بلاد الشام مقسّمة إلى الدول الحالية التي نشأت بعد الحرب العالمية الأولى. أصبح عمر أبو ريشة يحمل الجنسية السورية، وفي عروقه دماء لبنانية وفلسطينية؛ ذلك أن أباه ينتسب إلى عائلة القادري اللبنانية، وقد ولد في بلدة القرعون بالبقاع الغربي. وقد قال لي ذات مرة "أنا الثلاثة معا: سوري لبناني فلسطيني". وكلتا العائلتين: أبو ريشة واليشرطي تعتنق الصوفية. وعلى غلاف كتاب "النفحات القدسية العلية" يذكر مؤلفه الشيخ مصطفى أبو ريشة، جدّ الشاعر، لقبه ونسبه "القادري حسباً ونسباً، الشاذلي اليشرطي طريقة ومشرباً، مفتي إقليم البقاع".
انتقل اليافع عمر أبو ريشة إلى حلب، وفيها مكث سنوات طوالاً فظنّه البعض حلبياً. فيها تلقّى العلم بالمدرسة الأميركية. وبعد المرحلة الثانوية أوفده أبوه إلى الجامعة الأميركية في بيروت ليدرس العلوم، خصوصاً الكيمياء، لأنه كان يرغب في إنشاء مصنع للنسيج يتولى ولده إدارته. وكان عمر ذا ميول أدبية، يعشق الشعر، وكان كسولاً في مواد الدراسة العلمية، وأخبرني أنه نظم أرجوزة صاغ فيها المعادلات الكيميائية شعراً ليسهل أمر حفظها. وفي منتصف ثلاثينيات القرن الماضي أرسله أبوه إلى مدينة مانشستر في انكلترا ليتخصص في دراسة النسيج. ولم يكن تلميذاً متفوقاً لأنّه يدرس المادة العلمية على مضض ويمضي معظم وقته في الاطلاع على المؤلفات الأدبية خصوصاً على دواوين الشعر الإنكليزي. وعاد إلى حلب، وكان أبوه فشل في الحصول من سلطات الانتداب الفرنسي على ترخيص لإنشاء المصنع، ولم يحزن عمر أبو ريشة. أخبرني تعليق والده الظريف "أرسلته إلى انكلترا ليتعلّم الغَزْل فتعلّم الغَزَل!".
بدأ مسيرته المهنية بوظائف حكومية، وأخذ ينشر قصائده في المجلات الأدبية ويشارك في الأمسيات الشعرية. في عام 1940 أصبح مدير دار الكتب الوطنية في حلب. ثم التحق بوزارة الخارجية وبدأ المسيرة الدبلوماسية عام 1950 وزير سورية المفوّض لدى البرازيل، وفي 1953 سفيراً في الأرجنتين وتشيلي، وبعد سنة انتقل إلى الهند. وفي زمن الوحدة كان سفير "الجمهورية العربية المتحدة" في النمسا. وبعد الانفصال سفير سورية في الولايات المتحدة الأميركية (1962-1964) ثم عاد مجدداً إلى الهند حتى تقاعده سنة 1970. كان سفيراً ناجحاً تدعمه ثقافته وإجادته للغات. في الهند عقد صداقة مع زعيمها جواهر لال نهرو، وقال: "أشيع عنه أنه الرجل ذو الثقافتين، لكني أؤكد أنه كان ملمّاً بثقافات مختلفة، لكنّه ذو ثقافة واحدة يلتزم بها: الهندية". وأخبرني أنه أهدى الرئيس النمسوي أدولف شيرف طاولة نرد شغل دمشق مرصّعة وعلّمه اللعبة. وقال عن الرئيس الأميركي جون كينيدي أنه استمتع يوم تقديم أوراق الاعتماد بالقصائد الإنكليزية التي ألقاها عمر أبو ريشة حين عرف أن كيندي يتذوق الشعر "وفي جلسة لاحقة اختلفنا بصدد الشاعر كيبلنغ. هو كان يحبه وأنا كنت أمقت نزعته الاستعمارية. هو القائل: الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا". وبعد التقاعد أقام عمر أبو ريشة في بيروت في حي الحمراء على مقربة من فندق البريستول. وفي بيروت آنذاك عرفت الشاعر الكبير. كان اللقاء الأول في منزل الشاعر بولس سلامة الذي أخبرني أنه حين كان قاضيا في طرابلس عرف عمر سنة 1935 ومن الجلسة الأولى التي سمع فيها قصائده أعجب بها ونشأت صداقة بينهما.
بات دبلوماسياً عام 1950 إذ أصبح وزير سورية المفوّض لدى البرازيل
بعد ذلك التقيت الشاعر الكبير مراراً. وقمت بإعداد حلقة تلفزيونية عن مسيرته الأدبية والدبلوماسية قدمتها ليلى رستم في إطار برنامج "سهرة مع الماضي" (فبراير/ شباط 1971). وأثناء الإعداد اطّلعت على ألبوم الصور، ووجدته كان في الماضي يرتدي نظارة طبية، فأخبرني أنه خضع لتدريبات خاصة في الهند، على غرار اليوغا، أعانته على استعادة الرؤية الجيدة فاستغنى عن النظّارة. وقد حرصت على أن يكون في الحلقة التلفزيونية متسع ليلقي عمر أبو ريشة المزيد من قصائده، خصوصا أنه يتميّز بجودة الإلقاء، يُطرب السامع، يفوق معظم أقرانه الشعراء في هذا المضمار.
في زياراتي له كنت أسأله كثيراً عن قصائده، عن رؤيته لدور الشعر. قال إنه عندما كان طالباً كان يُعجب بأبيات كثيرة من الشعر العربي القديم، لكنه كان يأخذ على القصائد خلوها من التماسك والوحدة. قال إنّ وفرة اطلاعه على الشعر العربي القديم أثْرَت قاموسه اللغوي، لكنه أعجب أيضا بالشعر الإنكليزي، ببناء القصيدة، بتجانس أبياتها وبوضوح الموضوع والسعي إلى إبرازه بالعبارات المكثفة. وأعطاني مثالا على قصيدته في رثاء الأخطل الصغير. بنى عمر أبو ريشة قصيدته بناء محكماً، أساسه أن الشاعر الأخطل الصغير قد مات، لكن قصائده، بنات وحيه، لم تدرِ بالنبأ الفاجع، فمن الأفضل كتمان مثل هذا الخبر عن هذه اليتامى، لكي تبقى تشدو بما أبدعه أبوها. وإضافة إلى جمال فكرة "القصائد – البنات" فهي أسست لعمارة القصيدة أيضا، إذ جعل أبو ريشة كل بنت تغني مَعْلَما من معالم الشاعر الراحل. هذه تناولت قصائده الغزلية، وتلك تغنت بقصائده السياسية الوطنية.
أعددتُ حلقة عن مسيرته الأدبية والدبلوماسية قدمتها ليلى رستم
وقد اشتهر عمر أبو ريشة بقفلة البيت الأخير التي حرص على أن تكون محكمة مدوّية. قال: "هذا في القصائد القصيرة، أما في الطوال وخصوصا التي تلقى أمام الجمهور، فإنني أحرص على أن يكون النهج ذاته في قفلات المقاطع". ووجدتُ الأمثلة على ذلك في رثائه للأخطل الصغير. في قفلة المقطع الأول عن كتمان خبر وفاة الأخطل: "لم يبلغ الخبر الناعي مسامعها/ عن مثل هذي اليتامى يُكتم الخبر". وكذلك في قفلات أخرى مثل: "إزميل مبدعه أدّى رسالته/ إلى العوالم، فانطق أيها الحجر (...) خنقتُ بالدمعة الخرساء أكثره/ وأقْتَلُ الدمع ما لا يَلمَح البصر (...) وأنت تكتم عنهم ما تكابده/ تموت وهي على أقدامها الشجر". وقفلة هذا البيت تدل على ثقافته الإسبانية، فالصورة مستوحاة من عنوان مسرحية لأليخاندرو كاسونا "الأشجار تموت واقفة".
مرة قلت لعمر أبو ريشة "لاحظت أن معنى قصيدتك "في طائرة" وبناءها تكررا في قصيدة لاحقة لنزار قباني "غرناطة". في القصيدتين لقاء مع فتاة إسبانية تتغنى بجدودها في الأندلس ومآثرهم ولا تعرف أن محدّثها عربي. عند أبو ريشة اللقاء في طائرة وكانت تجلس بجواره، وعند قباني في مدخل قصر الحمراء في غرناطة. في الأولى: "وجدودي ألمح الدهر على ذكرهم يطوي جناحيه جلالا/ هؤلاء الصيدُ قومي فانتسِب إنْ تجد أكرم من قومي رجالا/ أطرق الطرف وغامت أعيني برؤاها، وتجاهلت السؤالا". وعند قباني: "قالت هنا الحمراء زهو جدودنا، فاقرأ على جدرانها أمجادي/ أمجادها؟ ومسحتُ جرحاً نازفاً، ومسحت جرحاً ثانياً بفؤادي/ يا ليت وارثتي الجميلة أدركت/ أنّ الذين عنتهم أجدادي". ابتسم عمر أبو ريشة، ولم يعلّق. كان عفيف اللسان.
بدأ عمر أبو ريشة شاعر غزل متميزا، وله روائع في هذا اللون الشعري. ولأن مثل هذه القصائد عاطفي، ظلت العلاقة حميمية أيضا بين القصيدة والقارئ. أما شعره السياسي فهو يمس عموم الناس، ولذلك أقبلوا على قراءته وتداوله.
أخبرني الكاتب السوري إنعام الجندي أنه كان طالبا بمدرسة الروم الأرثوذكس في حمص سنة 1938 وأن إدارة المدرسة دعت الشاعر الصاعد عمر أبو ريشة ليلقي قصيدة في احتفال نهاية العام الدراسي "وطلبت رقابة الانتداب الفرنسي الاطلاع على نص القصيدة، لكن شاعرنا رفض، فطُلب منه أن يذكر عنوان القصيدة وفحواها فأجاب إنها عن خالد بن الوليد، فسُمح له بذلك. وإذا بالقصيدة التي عن البطل العربي الخالد تتحول إلى نقد للحاضر، فالتهبت القاعة حماسة ودوّى التصفيق وهتافات الإعجاب. وعندما ألقى عمر المقطع التالي: "يا مـسـجّـى في قُبة الخلد يا خالدُ هل من تلفّتٍ لبياني؟/ لا رعاني الصبا إذا عصف البغي وألفى فمي ضريحَ لساني/ أنا مـن أمـة أفاقت على العزّ وأغفت مغموسةً في الهوانِ (...) لا تـقلْ ذلَّـت الـرجولة يا خالد واستسلمت إلى الأحزانِ". أصبح التصفيق رعوداً".
وبعيد نكبة فلسطين عام 1948 ألقى عمر أبو ريشة في حلب قصيدة سياسية ثائرة ذاعت أبياتها في عموم العالم العربي، ومطلعها "أمتي هل لك بين الأمم منبر للسيف أو للقلم؟". ومن أبياتها الملتهبة: "ألإسرائيل تعلو راية في حمى المهد وظل الحرم !؟/ كيف أغضيت على الذل ولم تنفضي عنك غبار التهم؟ (...) أمتي كم صنم مجدته لم يكن يحمل طهر الصنم/ لا يلام الذئب في عدوانه إن يكُ الراعي عدوَّ الغنم".
وفي أواخر سنة 1969 أقيم للأخطل الصغير مهرجان تأبيني بقاعة الأونيسكو في بيروت. حضره رئيس الجمهورية اللبنانية شارل حلو، ورئيس وزراء السودان الشاعر محمـد أحمد محجوب. وكانا عائدين من العاصمة المغربية الرباط بعد المشاركة في مؤتمر القمة العربية. كنت بين الجمهور شاهدا على تجاوبه وإعجابه بالشاعر الذي ألقى الأبيات التالية على مسمع اثنين من القادة العرب المعنيين بالنقد في القصيدة: "إن خوطبوا كذبوا أو طولبوا غضبوا/ أو حوربوا هربوا أو صوحبوا غدروا/ خافوا على العار أن يُمحى، فكان لهم/ على الرّباط لدعم العار مؤتمرُ/ على أرائكهم سبحان خالقهم/ عاشوا وما شعروا، ماتوا وما قُبروا".
وفي مطلع السبعينات أسمعني عمر أبو ريشة بضعة أبيات من مستهل قصيدة شرع في نظمها إثر زيارة إلى سورية بعد تقاعده، وغيبة عشرين عاماً ("عودة المغترب") ولم يلقَ الحفاوة التي توقّعها: "ألفيتُ منزلَهـا بوجهـي مُوصَـدا/ مـا كان أقربـَه إليَّ وأبـعـدا/ كلَّت يداي على الرتاج، وعربدتْ/ في سمعِيَ المشدوهِ قهقهةُ الصدى/ ما كنتُ أحسبُ أن أطوفَ به/ على غصص النوى، وأعودَ عنه مُجهدا". ثم حدثت مأساة مدينة حماة سنة 1982، وتعامل فيها النظام البعثي بعنف غير مسبوق ضد معارضيه في المدينة. ومن البديهي القول إن عمر أبو ريشة انفعل بما جرى، فأضاف إلى قصيدته أبياتا ملتهبة ضد القمع الرهيب، وأصلى حافظ الأسد، الرئيس آنذاك، أقذع الكلمات: "ترك الحصون إلى العدى متعثِّرًا/ بفراره، وأتى الحِمى مُسْتأْسـِدا/ سـكِّينـه في شـدقه، ولعـابُه/ يجري على ذكر الفريسة مُزبدا/ ما كان هولاكو، ولا أشـباهُه،/ بأضلَّ أفئـدةً وأقسـى أكـبُدا/ هذي حماةُ، عروسةُ الوادي على/ كِبْر الحداد، تُجيل طـرفًا أرمدا". وبعد وفاة الشاعر نُشرت القصيدة بأبياتها المضافة، قرأتها في كتاب (عمر أبو ريشة، شاعر أمة) للشاعر السوري مصطفى عكرمة.
هكذا كان شاعراً في مهماته الدبلوماسية، أما شعره السياسي فخلا من الدبلوماسية والمجاملة، وتميّز بالصراحة الموجعة.