استمع إلى الملخص
- خلال مهرجان وارسو السينمائي، ناقش علي عسكري تحديات العمل السينمائي في إيران، بما في ذلك القيود الرقابية الصارمة، والتفاهم الفني مع خاتمي الذي أثمر عن ثلاثة أفلام.
- تمويل الأفلام المستقلة في إيران يعتمد على الممولين الخاصين وبعض المساهمات الأوروبية، ويواجه المخرجون صعوبات مالية بسبب عدم القدرة على عرض أفلامهم محليًا.
في "آيات أرضية" (2023)، يُقدِّم علي رضا خاتمي وعلي عسكري تسعة لقاءات بين مواطنين إيرانيين وأصحاب السلطة. يتتبعان أناساً عاديين في مناحٍ حياتية مختلفة، يرزحون تحت قيود ثقافية ودينية ومؤسّساتية مفروضة عليهم من النظام. قصص قصيرة مؤثّرة تلتقط، بذكاء وطرافة، أرواح هؤلاء وعزائمهم وسط المعاناة، وتُقدِّم صورة دقيقة عن مجتمع مُعقّد.
في الدورة الـ40 (11 ـ 20 أكتوبر/تشرين الأول 2024) لـ"مهرجان وارسو السينمائي"، شارك عسكري (1982) في لجنة تحكيم مسابقة الفيلم القصير، فكان حوار معه تحدّث فيه عن مسيرته وصعوبات العمل السينمائي في إيران، وعن التفاهم الفنيّ مع خاتمي، الذي نتج عنه ثلاثة أفلام إلى اليوم. حديثٌ مليء أيضاً بطرافة وسخرية، كفيلمه تماماً.
(*) قرأتُ عن تنقّلاتك مع "آيات أرضية" لعروض له في العالم، وعن احتجازك في طهران بعد عرضه في مهرجان "كانّ" 2023. أين أنت مستقرٌّ الآن؟
بعد إقامة سنتين في إيطاليا وفرنسا، عدتُ إلى إيران قبل ست سنوات. كنت أسافر باستمرار، والآن مُستقرّ في طهران.
(*) أتواجهك مشكلات في الدخول إلى إيران والخروج منها بسبب أفلامك؟
ما دمت لا أحقّق أفلاماً، لا مشكلات (يبتسم). تبدأ المشكلات حين أنوي تحقيق فيلم. مسؤولو الرقابة يتتبعون مخرجين مثلي يحاولون إنجاز أفلام من دون موافقتهم. بعد صنع فيلم وعرضه، تثور ثائرتهم، لأنّهم يريدون التحكّم في كلّ الإنتاج السينمائي.
(*) عُرض الفيلم في الخارج كثيراً. ماذا عن إيران؟
تعلمين أنّ هناك إجراءين قبل صنع أيّ فيلم في إيران. أولاً، يقدَّم النصّ إلى الرقابة. إذا وافقت عليه، يُمكن التصوير، وبعد الانتهاء منه، وقبل إعطاء تصريح بعرضه، يطابقونه مع النصّ الأصلي. إنْ لم نحصل على الموافقة الأولى، فلا جدوى من محاولة عرضه. لكنْ، مع الرقمنة اليوم، لم يعد من معنى لمنعهم عرض الفيلم في إيران. كلّ أفلامي متوفّرة مجاناً على الشبكة. طبعاً ليس على مواقع شرعية. أنشرها على شبكات كتليغرام بعد سنة على بدء جولتها في العالم.
هذا سخيف ومحزن للمخرج. إنّه يتحمّل مَشاقَّ عدّة، كالحصول على تمويل، ثم يجد نفسه مُجبراً على إتاحة فيلمه مجاناً ليُشاهده الناس. من جهة، تهمّني مشاهدة الجمهور له، ومن جهة أخرى يُكلّفني هذا مادياً. لكنْ، في الوقت نفسه، ورغم صعوبة الوضع، لا أعتبر نفسي ضحية. هناك من عرض مشاهد من فيلمي الأخير، الممنوع في إيران، على إنستغرام، راوح عدد مشاهديها بين مليونين وثلاثة ملايين. هذا يعني التالي: إذا عُرض في الصالات، فالناس سيشاهدونه فيها. إنّهم مهتمّون بفيلمٍ يتحدّث عنهم وعن واقعهم وحياتهم الحقيقية. لذا، سخيف أنْ يمنع الإرشاد (وزارة الثقافة ـ المحرّر) هذا النوع. في الواقع، لا يُمكنهم منعها، فالأمر يشبه قضية الحجاب، المفروض قانونياً، لكنّ النساء يتجوّلن من دونه في كلّ مكان الآن. إنّهم يحاولون التحكّم في أشياء أساسية في حياة الناس، وهذا مستحيل.
(*) كيف تموّل أفلامك إذاً، فلا مدخول من عروض الداخل؟
هناك مموّلون خاصون يساهمون في إنتاج أفلامٍ فنية مستقلة. معظم التمويل يأتي منهم، مع مساهمة ضئيلة من الأوروبيين، الفرنسيين خاصة، و"مؤسّسة الدوحة للأفلام". وحين يُباع، نحصل على بعض المال.
(*) كيف يتمّ الإتفاق في حالة كهذه؟ أيُدفع مبلغٌ فوري، أم هناك نسبة من الأرباح؟
عادة، يُدفع مبلغ ضمانةً أولية عند توقيع العقد، وإذا عرف الفيلم إقبالاً، فهناك نسبة للمخرج لا نحصل عليها عادة لأنّ الموزّعين والبائعين يخترعون دائماً أسباباً لعدم الدفع، بحجة مشكلات طرأت. هذا يشبه قضية المهر، أي ما يُعطى للمرأة عند الطلاق في إيران. حين يحصل، تجرى مداولات بشأنه واتفاقات، تبقى كلّها مجرد أحاديث وشروط لا يُطبّق منها شيءٌ. في السينما، الأمر مشابه مع توزيع الفيلم. غالباً، يجدون أعذاراً كي لا يدفعوا، إلى درجة تُثير فيك إشفاقاً عليهم، والقول: "ربما عليّ مساندتهم في النهاية" (ضاحكاً).
(*) لكنّ فيلمك نجح في فرنسا، وتجاوزت مبيعاته مائة ألف بطاقة، وهذا رقم جيد لفيلم أجنبي.
وفي إيطاليا أيضاً، وبلجيكا وهولندا. عرف إقبالاً خارج ايران، وهذا يدعوهم إلى القول في إيران إنّنا نحصل على مالٍ كثير من الأجانب، وإنّنا أغنياء. يظنّون أنّ من يُنجز أفلاماً للأجانب، ويسافر إلى الخارج، يمتلك ملايين الدولارات. هذا مُثير للسخرية، إذْ بينما تكونين في الجحيم، يظنّ الآخرون أنّك في الجنة. يتجلّى هذا أيضاً حين يكون النقاش مع مسؤولين في الحكومة، يعاتبونك لأنّك كما يزعمون صنعت فيلماً للأجانب وحصلت على الملايين. وأيضاً يثار الأمر في برامج تلفزيونية، ويُشار إلى نجاح الفيلم في مهرجانات ودول أجنبية، ويُقال إنّنا أغنياء. يحطّون من قدرك، لأنّك تصنعين أفلاماً تسيء إلى إيران، بل ضدها وفق آرائهم. فيلمي الوثائقي الأخير كان سيُشارك في مهرجان "إدفا"، وفي ستة أشهر كنت أبحث عن تمويل (20 ألف دولار) لأنهيه، ولم أستطع إنهاء عمليات الإنتاج، بعد أنْ صرفت ما أملك، وأموال المنتج. هذا يحصل بينما يعتقد الآخرون أنّنا نأخذ الكثير من الأجانب. هذا مُثير للسخرية.
(*) في بداياتك، عملت مساعد مخرج مع سامان سالور، الفائز بجوائز عدّة عن فيلمه الأول "بضعة كيلوغرامات من التمر من أجل جنازة" (2008). اختفى، ولم نشاهد أفلاماً له. هذا يحصل مع مخرجين إيرانيين يختفون بعد الفيلم الأول. أين هو اليوم؟
بعد نجاح فيلمه هذا، بدأ لسوء الحظ إنجاز أفلام تجارية للتلفزيون. أستطيع تفهّم موقفه. فبعد فيلمٍ كهذا، يصعب كثيراً العمل في إيران. لا دعم، وفي الوقت نفسه أنتِ مُدانة بصنع فيلمٍ ضد إيران، ولا تستطيعين المغادرة لفترة بسبب مصادرة جواز السفر، وأشياء أخرى تقود إلى العمل سرّاً، أو للتساؤل عن سبب صنع أفلام. أخبرني صديق مخرج أنّه يعاني في حياته، لأنّه لا يستطيع إنجاز فيلمٍ كما يرغب، فلا مال لديه. إذا كنت تعيشين في بلد كفرنسا، تتخيّلين أنّك ستحصلين على دعم من المؤسّسات الحكومية، وفي إيران إذا صنعت فيلماً ضد الحكومة يصعب الاستمرار في العمل. لذا، مخرجون عديدون يبدؤون بعد فيلمٍ أول ناجح صنع أفلامٍ تجارية للعيش وشراء بيت. أعتقد أنّ سامان فعل الشيء نفسه. للأسف النتيجة ليست جيدة.
(*) تعاونت مع علي رضا خاتمي في كتابة سيناريو "إلى الغد" (2022)، واليوم تتعاون معه في الإخراج في فيلمك الثالث "آيات أرضية". كيف التقيتما وقرّرتما العمل معاً وكلّ منكما في بلد؟
التقينا للمرة الأولى في "مهرجان فينيسيا" عام 2017، حيث عرض فيلمٌ لكلّ منا ("آيات النسيان" لخاتمي نال جائزة "فيبرسي" للفيلم الأول، و"اختفاء" لعسكري ـ المحرّرة) ونال فيلمه جائزة السيناريو في قسم "آفاق". لم يكن أحدنا يعرف الآخر، فهو يعيش في كندا. دعوته إلى مشاهدة فيلمي فأتى، لكنّه غادر بعد 10 دقائق، وكنت غاضباً جداً. انتظرت أنْ يحترم عملي، لكنّه اعتذر بسبب ارتباطٍ. لاحقاً، بعد تعارفنا جيداً، اعترف لي أنّه لا يحبّ هذا النوع. طلب مني مشاهدة فيلمه، ففعلت مثله وخرجت من القاعة، ولم نتقابل في المدينة، وشعرت أنّنا مختلفان سينمائياً. حين عُرض فيلمي في "مهرجان تورنتو" العام نفسه، وهو يعيش هناك، تقابلنا وأعطينا لنفسينا فرصة أخرى لمشاهدة الفيلمين، وبتنا صديقين. وجدته شخصاً ظريفاً وطريفاً.
(*) أنتما متشابهان إذاً. أسلوب حديثك وفيلمك يتحلّيان بطرافة مؤكّدة.
هكذا بدأت صداقتنا. طلب منّي الكتابة معاً، فنحن من الخلفية الاجتماعية نفسها، ومن عائلتين متعدّدتي الأفراد. هو من مدينة صغيرة جنوب شيراز، وأنا من طهران، لكنّنا ننتمي إلى أقلية لغوية. إنّه عربي من إيران (والده عربي وأمه إيرانية ـ ملاحظة من المحرّرة)، وأنا أنتمي إلى مجموعة تتحدث "تاتي"، لغة نادرة وقديمة جداً (من شمالي إيران، قرب بحر الخزر ـ ملاحظة من المحرّرة). بدأنا العمل في "إلى الغد"، وأدركنا أنّنا ثنائيٌّ يعمل جيداً معاً. وجدته شاباً ظريفاً، يرى في بعض الأمور جوانب مختلفة عن تلك التي أراها، وينتبه كي لا يتّخذ الفيلم وجهة تعجب الغرب. كان ضد ذلك تماماً، ويُصحّح لي عندما أميل إلى هذا.
(*) مثلاً.
كان ضد هذا التوجّه، ولديه مشكلات كثيرة في كندا بسبب طريقة تفكيره. إنّه مباشر في حديثه عن الجوانب السيئة للغربيين مثلاً، وعن فلسطين. إنّه مؤيّد للفلسطينيين، ويتحدّث عن ذلك صراحة. تعرفين مواقف الجامعات الكندية (أستاذ كتابة وإخراج ـ ملاحظة من المحرّرة)، فهناك صعوبة الحديث عن هذا الموضوع. لكنّه لم يهتمّ. لا أتذكّر تماماً أمثلة، لكني قبل العمل معه اعتدت التعاون مع آخر، وشعرت أنّه يميل إلى إعجاب الغرب، بينما هو مغاير تماماً.
علّمني أشياء كثيرة في السينما. العمل معه مهمّ جداً لي. بعد عرض الفيلم في برلين، أخبرته أنّي مدين له وجاهز لمساعدته للعمل في إيران. كان يحلم بإنجاز فيلمٍ هناك، ولديه نص وتمويل، لكنّه يخشى العودة بعد غياب 14 سنة. شجّعته، وبدأنا التحضيرات، لكنّ الحكومة لم تعطنا الموافقة على التصوير. الفيلم عن شخصٍ يريد قتل والده. ميزانيته ضخمة، ومع أجانب. لم يكن مُمكناً تصويره سرّاً. شعر بخيبة أمل كبيرة.