"عليهُم" لـ ألكسندر بوليكيفيتش: لم يبق سوى الجسد

"عليهُم" لـ ألكسندر بوليكيفيتش: لم يبق سوى الجسد

01 ديسمبر 2020
يروي بجسده ما عاشه من صعاب طوال الأشهر الماضية في لبنان (العربي الجديد)
+ الخط -

تقول الراقصة الألمانية الراحلة، بينا بوش، إن نقطة انطلاق أي عمل راقص، لا بد من أن تكون الحياة المعاصرة، لا أشكال الرقص المتعارف عليها سابقاً، ذلك أن "الحركات الراقصة هي وليدة الحياة". لكن هل يمكن للحركة الراقصة أن تولد من حياة في بلد أرهقه الفساد وشبح الحرب؟

هذا ما سيجيب عنه الراقص ومصمم الرقص اللبناني ألكسندر بوليكيفيتش؛ إذ يستعد لإطلاق عمله الراقص الفردي الجديد "عليهُم"، والذي من المفترض أن يرى النور في ستة عروض ما بين الحادي عشر والسادس عشر من الشهر الجاري، في صالة "كريبت" التابعة لكنيسة مار يوسف للآباء اليسوعيين في بيروت.

يحمل عنوان العمل معاني التحدّي والإقدام على المواجهة؛ فهو عرض "يتحدّث عن تجاوز الصعوبات وخلع ثوب الضحية"، أراد الراقص اللبناني من خلاله أن يروي بجسده ما عاشه من صعاب طوال الأشهر الماضية، ومن ثم قراره مواجهة تلك الصعاب بجرأة وعزم.

"أحب قلب الضعف إلى قوّة"، يقول ألكسندر، الذي استمد قوّة عرضه من عمق آلامه الشخصية إزاء تأثره برحيل والده وتزامن ذلك مع إنهاء علاقة عاطفية سامة، إضافة للظروف العصيبة اقتصاديا وأمنيا التي عصفت بلبنان طوال عام، حتى وصلت إلى جريمة مرفأ بيروت في الرابع من أغسطس/آب الماضي التي هزّت كيان البلاد.

وكما عرّى الرابع من آب لبنان مؤقتاً من رداء الأمل، قرّر ألكسندر أن يتخلى عن الزيّ الذي كان مخصصا للعرض ليرقص بجسد شبه عار، ليحاكي حالة الفقدان والتجرد من كل شيء. فبعد الخسارات المتتالية "لم يتبق لي سوى جسدي" على حد تعبيره.

في "عليهُم"، يحرر ألكسندر بوليكيفيتش الجسد والصوت معاً، فيطلق صوته في دندنة تشبه الأنين تكون هي وأنفاسه الموسيقى الوحيدة المرافقة للعرض. وبالرقص البلدي، يرسم ألكسندر لوحات لحالات عاطفية تتشظى ما بين الانكسار والحب، السلام والتخبّط، وكل ذلك ضمن حدود علبة خشبية خانقة تجسّد قيد المعاناة فيخلق الشاب ما بينه وبينها رقصة التحدّي للنفس والواقع في معركة يأبى خسارتها.

بوليكيفيتش من مواليد بيروت، تخصص في مجال الرقص والأداء الحي، وهو يحمل شهادة من جامعة "باريس الثامنة" في مجال المسرح والرقص. "عليهم" هو عمله الفردي الخامس بعد سلسلة عروض هي "محاولة أولى" (2009)، "تجوال" (2011)، "إلغاء" (2013)، و"بلدي يا واد" (2015).

في جميع أعماله، يطوّع ألكسندر بوليكيفيتش الرقص البلدي لخدمة أفكاره. يخرج عن السائد ويصبح الجسد حكواتياً ليّناً تارة، وعنيفاً تارة أخرى، بحسب ما تقوله الرواية. يؤمن ألكسندر بضرورة اللعب على الأدوار الجندرية وتحرير الرقص البلدي من فكرة اقترانه وقولبته كرقص نسائي فقط، فالرقص على حد قوله "حركة تتخطى حدود هوية الجسد"، وهذا ما كان الهاجس في "محاولة أولى" العرض الذي أراد من خلاله فرض احترام الجمهور له كرجل راقص يطوّر الرقص البلدي ويخرجه عن إطاره التقليدي المألوف.

وكما كان موت الأب حاضرا في "عليهم"، كان طيف موت والدة ألكسندر مهيمناً على عروضه الثلاثة الأولى. "عندما تموت الأم تمحى ذاكرتك"، يقول ألكسندر الذي تمحور عملاه "تجوال" و"إلغاء" حول مفهوم المحو. ففي "تجوال"، روى ألكسندر معاناته الشخصية في بلد يرفض وجوده كشخص مختلف، محاكياً بالرقص البلدي نضال المختلفين المهمشين؛ من مثليين أو بدناء أو ذوي حاجات خاصة، مقابل عنف المدينة تجاههم، في ظل وجود عنف ممنهج تجاه المدينة نفسها إثر الأعمال التدميرية لعمارتها وطمس تاريخها وذاكرتها.

ويتشارك عرض "إلغاء" بفكرة محو التاريخ، إنما ثقافيا هذه المرة، في إشارة للحركات السياسية أو الدينية المتطرفة التي تعمل على فرض رقابتها حول الفنون بما يتناسب وأجنداتها. أما "بلدي يا واد" فهو عمل استعراضي قلب فيه ألكسندر فكرة اقتران جسد المرأة بالرقص البلدي بمفهومه التقليدي، ليصبح هو الراقص في مقهى تديره امرأة ويتشارك العزف والغناء فيه نساء ورجال.

يتمسّك ألكسندر بتسمية "الرقص البلدي" دون سواها، رافضا التسميات التي تحمل طابعا استشراقيا أو استعماريا مثل "الرقص الشرقي" و"رقص البطن" belly dance. ويشهد لألكسندر بوليكيفيتش جرأته، لا كراقص فقط، بل كناشط سياسي منخرط دوما في صفوف المنتفضين في بيروت، وقد تعرّض للاعتقال من قبل قوى الأمن اللبناني في بدايات ثورة السابع عشر من تشرين الثاني 2019.

كما ويعرف للراقص مواقفه السياسية الحادة ومبادئه الثابتة. ففي حادثة سابقة، حورب بوليكيفيتش من قبل القيمين على مهرجان أفينيون المسرحي في فرنسا بعد محاضرة قال فيها إن الدولة الصهيونية هي دولة توسعية استيطانية آخذة في قضم الأراضي الفلسطينية دون الامتثال لأية حدود، مشيراً إلى كون بلده لبنان مهدداً دوماً بخطر العدوان الإسرائيلي، وبتدخلات الدول الكبرى التي ترتهن لمصلحة إسرائيل، ما ينعكس سلبا على سير الحياة في البلاد ولا سيما الثقافية منها.

في "عليهُم"، يعود ألكسندر بوليكيفيتش إلى ساحة فنية افتقدت حضوره كما افتقدت حضور الجمهور الحي. ويخشى الشاب مستقبلاً تنحصر فيه الفنون عبر الشاشات؛ فيرفض الرضوخ لخيار العروض عبر التطبيقات الافتراضية أونلاين قائلا: "لا أهتم للرقص أمام كاميرا، فنحن كفنانين نتغذّى من طاقة الجمهور ونحتاج لأنفاسهم ودموعهم". وبيروت ستكون على موعد مع طاقة ألكسندر وأنفاسه، لتشهد كيف تحوّل الفنون فائض الدمع إلى فائض من قوّة وحياة.

المساهمون