عقد على رحيل صباح الشحرورة... عند كل حديث عنها

08 ديسمبر 2024
تمكنت صباح من وضع خط فاصل بين أدائها اللبناني والمصري (بلال جاويش / الأناضول)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- بدأت صباح، أو جانيت جرجس فغالي، مسيرتها الفنية في سن مبكرة وحققت شهرة واسعة في مصر ولبنان بفضل موهبتها الاستثنائية في الغناء وتعاونها مع كبار الملحنين مثل محمد القصبجي وزكريا أحمد ورياض السنباطي.

- تميزت صباح بقدرتها على التكيف مع الأنماط الموسيقية المختلفة، حيث أدت الأغاني الخفيفة في مصر وأظهرت براعتها في الموال الجبلي في لبنان، مما جعلها رمزاً للمرأة المتحررة والجريئة.

- تركت صباح إرثاً غنائياً ضخماً يقدر بالآلاف من الأغاني، ولا يزال إرثها الفني بحاجة إلى توثيق دقيق لجمع أغانيها وتوثيقها بشكل كامل.

لم تكن جانيت جرجس فغالي التي حملت لاحقاً اسم صباح (1927 - 2014) قد جاوزت الـ18 عاماً حين أطلت على الجمهور المصري للمرة الأولى عبر باب الفيلم السينمائي "القلب له واحد" الذي عرض عام 1945. لكن يبدو أن هذه الفتاة الصغيرة تمتعت بموهبة استثنائية في صوتها وحضورها، وكانت موهبتها كافية لإقناع الوسط الموسيقي المزدهر في القاهرة برعايتها ومساندتها.

ليس هيناً ولا قليلاً أن يأتي الإطلاق الأول لصوت صباح عبر ثلاثة من أركان التلحين في مصر: محمد القصبجي، وزكريا أحمد، ورياض السنباطي، الذي تولى تدريبها بتكليف من المنتجة السينمائية آسيا داغر (1901 - 1986)، فتمكنت في زمن قياسي من وضع خط فاصل بين أسلوبها الجبلي اللبناني، وبين الغناء المصري المعتاد والمهيمن والمتمتع بمركزية راسخة في بلاد العرب.

لم تصعد صباح درجات سلم فني، ولم تحقق شهرتها على مراحل متعددة. سطعت نجماً مضيئاً، ثم ظلت منطلقة كصاروخ لا يتوقف. في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، مرت الذكرى العاشرة لرحيل صباح، ما يمثل فرصة لتأمل بعض الجوانب المهمة في مسيرة هذه المطربة التي يتداخل فيها ما هو فني مع ما هو شخصي، فقد تزوجت وانفصلت مرات، واشتهرت بأنها تعيش حياتها كما تريد، كما عرفت بقبولها أغاني من عدد كبير من الملحنين.

بدت حياتها متسمة بالفوضى والاستهتار وانعدام أي شكل من أشكال التخطيط، لكن بالرغم من هذه العشوائية الشخصية والفنية، استطاعت الشحرورة أن تحقق نجاحاً ضخماً في مسارين متوازيين، مصرياً ولبنانياً، وهو إنجاز لم يقدر عليه -بهذا الحجم- غيرها من المطربات ولا المطربين، الذين كانوا أكثر منها استقراراً وأحرص منها إعداداً وتخطيطاً. 

لا ريب أن صورة المرأة الفاتنة المتحررة الجريئة كانت بارزة في أغلب الكتابات النقدية والصحافية عند كل حديث عن صباح، وربما كانت هذه الصورة حجاباً مانعاً من التناول الموضوعي الجاد، الذي يتوقف أمام مقوماتها ومميزاتها الفنية المتنوعة، غناءً وتمثيلاً واستعراضاً. لكن لا بد من الإقرار بأن صباح "الصورة" كانت دائماً جزءاً لا ينفك عن صباح "الموضوع". مثلاً، تبدو صفات "التحرر" و"الجرأة" ظاهرةً ومؤثرة في طريقة أدائها كثيراً من الأغاني، ومن المهم ألا يقع النقد أسيراً للشكل والصورة، وألا يتورط في أحكام قيمية تنتهي بما يمكن اعتباره ظلماً فنياً.

ترى الباحثة الموسيقية سمر سلمان، أنه من الصعب الاقتراب الموضوعي والشامل من شخصية صباح بمعزل عن ثنائية الشكل والمضمون، التي تتجلى وتتكثف بشدة رغم حرصها الدائم على ضبط إيقاعها والموازنة بين طرفيها، فجمعت بين حضور شكلي، عبر المظهر الخارجي، والصورة الاجتماعية، وبين حضور موضوعي يتمثل في صوت قوي النبرة، شديد الوقع، عريض، مع قدرة على إطالة النفس إلى مدى بعيد يوحي بامتلاكها مساحة هائلة، بل قد يوحي بمساحة أكبر من الحقيقية.

تشير سلمان إلى أن قدرة صباح على تحميل صوتها بكل معاني الإشراق والبهجة والجرأة والاقتحام: "صوتها يشبه شخصيتها المفعمة بالأمل والفرح والتعالي على الجراح، رغم عوادي الزمن ومآسيه، فمن يعرف نشأتها وحياتها الأسرية وكواليس عمرها لا يملك إلا أن يقدر ويحترم قدرتها الهائلة على التجاوز".

في مقابلة متلفزة تقول صباح: "الأداء من الذكاء". تقصد أن عقل المغني يتحرر من حالته الشخصية أياً كانت، نحو فضاء متخيل، فضاء الأداء ومقتضياته وحالته. يقول محمد عبد الوهاب: "التأدية رأي". فلا يتساوى أداءان للحن نفسه، لأنهما رأيان، وعقلان.

ترى الباحثة والمطربة فيروز كراوية أن "لا أدل على المقولتين من صباح نفسها، وشمسها الساطعة في أدائها، وتحرّرها المذهل سباحةً بين فضاءات الأداء. فصباح هي المؤدية التي تبرع مصرياً ولبنانياً، جبلياً ومدينياً، على مسارح العالم الفرنسي والأميركي، تماماً كالعالم اللاتيني والأفريقي، على مسارات خريطة المهاجرين اللبنانيين وأينما كانوا، مع السنباطي وفريد الأطرش، كما مع فيلمون وهبي والأخوين رحباني وروميو لحود.

بين المسارات كلها كان الأداء الصباحي هو مازورة الملحنين والمسارح، يطبع بصمته وينتزع من الألحان ما يبرزها، فمواطن الحنان في صوتها تتبعها بغتةً مواطن العنفوان، وأداء الملاعبة والإغواء يتناوب عليه أداء البراءة والفرح النابض، وتتجاور في رحلاتها الأدائية ملامح الأمومة والأنوثة والـ"معشقة" وفقاً لتعبير الشاعر المصري صلاح جاهين".

مصرياً، أطلت صباح من السينما والراديو ثم التلفزيون. ولأربعة عقود متتالية وضعتها قطاعات واسعة من الجماهير المصرية في موقع متقدم جداً، لكنه مرتبط دائماً بالأغنية "الخفيفة" التي ترسم ابتسامة فورية على شفاه المستمع، مع صوت رنان، يتزين ببحة وتدلل. لا أحد ينتظر من "الصبوحة" قصيدة رصينة، ولا منولوجاً وجدانياً مطولاً، ولا أي شكل من أشكال "الصرامة الغنائية".

لم يكن هذا دورها عند الجماهير المصرية وذاكرتها الجمعية التي لا تكاد تسمع باسم صباح حتى تستدعي أغاني من نوع "أكلك منين يا بطة" أو "حبيبة أمها" أو "أمورتي الحلوة" أو "الراجل ده هيجنني" أو "الحلو ليه تقلان قوي" أو "زنوبة" أو"الغاوي ينقط بطاقيته" أو "أنا هنا يا ابن الحلال". هذا حكم أغلبي لا تغيره الاستثناءات النادرة.

لبنانياً، تختلف الصورة، فصباح إحدى كبيرات الموال الجبلي، الذي يوفر فرصة لاستعراض الصوت ومساحته وتمكنه، كما أنه ميدان فسيح للارتجال والأداء العفوي. كانت صباح قادرة على مجاراة أصوات رجالية وازنة، مثل وديع الصافي أو نصري شمس الدين.

ترى فيروز كراوية أن "شحرورة الوادي" كانت مطمئنة إلى أن صوتها القادر طوع عقلها الأدائي، ترسله في عرب متتابعة وارتقاءات تمويلية لا تنتهي في مساجلاتها مع وديع الصافي، وتتحكم في حلياته الدقيقة في أصغر مساحة موسيقية تفرضها الجملة الغنائية. وهو كذلك طوع الجد والهزل، طوع رشاقة "الاستاكاتو" المتقطع و"الليغاتو" المطرِب، طوع المقامات باختلافها، والاستطالات على تنوع مدارسها.

لكن سمر سلمان ترى أنه على الرغم من ارتباط اسم صباح وفنها بالموال، إلا أن أداءها فيه لم يخرج عن شكل النوع الجبلي البسيط الخالي من التعقيد، الذي يرتكز على حرية المد واستعراض المساحة الصوتية والقدرة على التحكم في النفس، وإطالته إلى أبعد مدى ممكن، أكثر مما يرتكز على حرية الارتجال واتخاذها وسيلة للسلطنة والتطريب والانتقالات المقامية والتنويعات الأدائية، وإظهار أبعاد المقام.

موال صباح -في رأي سلمان- من النوع البسيط، يرتكز على المد الأفقي وفي كثير من الأحيان يكون ملحناً، لكنها ميزته بالطاقة العالية والحماسة التي كانت تخلفها في نفوس المستمعين، فجعلت منه أداة إبهار، من دون حاجة إلى دراية متعمقة بالمقامات أو كيفية توظيفها.

تنبه سلمان إلى أن اهتمام صباح الكبير بمظهرها الخارجي بدأ في "الحقبة اللبنانية"، أي بعد نقل نشاطها من القاهرة إلى بيروت أواخر الستينيات، وعلى امتداد كامل سبعينيات القرن الماضي، أي إنه جاء متزامناً مع التحولات السياسية والاجتماعية التي رافقت هذه الفترة. كانت ذكية جداً، وفهمت كيف تخاطب مزاج الشخصية اللبنانية التي تولي اهتماماً كبيراً للشكل وأناقة المظهر في كل نواحي الحياة.

منحت صباح المزاج اللبناني ما يهوى وزادت عليه ما يفوق خياله، فوقع في سحرها وتوجها ملكة على عرش الأناقة، وغدت ضيفة دائمة في حفلات تتويج ملكات الجمال وعروض الأزياء لكبار المصممين. لقد ملأت الدنيا وشغلت الناس بحضورهها، ليس في الفن فحسب، بل في معظم الفعاليات الاجتماعية والفنية، فلا تشرق شمس إلا واسمها يتردد في صباحات اللبنانيين غير آبهة بالاستحسان والاستهجان.

يقدر بعض المهتمين بجمع تسجيلات صباح أن أغاني الشحرورة تعد بالآلاف ليس بالمئات، لكن مع الأسف، فبعد مرور عشر سنوات على رحيلها لا يجد الباحث قائمة كاملة دقيقة بأغانيها. وأياً ما كان هذا العدد، فالمؤكد أن صباح خلفت تراثاً غنائياً ضخماً، وساعدها على هذا طول رحلتها الفنية، وخفة معظم أغانيها وقصرها. ومن المؤكد أن فنانة بوزنها وتأثرها تستحق بحثاً دؤوباً لجمع أغانيها وتوثيق بياناتها من حيث الكاتب والملحن وسنة الإصدار.

كانت صباح إحدى المرايا التي عكست طريقة تعامل عدد كبير من الملحنين مع الأغنية القصيرة أو السينمائية أو المسرحية. ومن النادر أن نجد مطرباً أو مطربة حظي بألحان كل من محمد القصبجي، وزكريا أحمد، ورياض السنباطي، ومحمد عبد الوهاب، وفريد الأطرش، ومحمود الشريف، وعبد العزيز محمود، ومحمد فوزي، وعزت الجاهلي، ورؤوف ذهني، وحسن أبوزيد، ومحمد الموجي، وكمال الطويل، وبليغ حمدي، وسيد مكاوي، وعبد الحليم نويرة، ومحمد سلطان، وفتحي حجازي، وجمال سلامة، وحلمي بكر، وغيرهم من الملحنين المصريين. وأيضاً حظيت بألحان كبار الموسيقيين اللبنانيين، وفي مقدمتهم: فيلمون وهبي، والرحبانيان، وفريد غصن، وزكي ناصيف، وإلياس الرحباني، وملحم بركات، وعفيف رضوان، وروميو لحود، وخالد أبو النصر.

المساهمون