استمع إلى الملخص
- يركز الفيلم على عودة المخرج رائد الرافعي إلى طرابلس لفهم واقعها الحالي، مستعرضًا قصص شخصيات متنوعة تعبر عن تجاربها في ظل بيئة محافظة، ويعكس التوتر بين التقاليد والجهود الفردية للتغيير.
- يتناول الفيلم قضايا اجتماعية حساسة مثل المثلية الجنسية، ويبرز التحديات في مجتمع محافظ، مع التركيز على الرغبة في استعادة الماضي والخوف من الغربة.
يبدأ رائد الرافعي وثائقيّه "طرابلس، حكاية المدن الثلاثة" (2024) بتعريف تاريخي مقتضب عن مدينته هذه، ثاني أكبر مدن لبنان. يذكر أنّها تُطلّ على البحر الأبيض المتوسّط، وأنّها مؤسَّسة عام 1400 قبل الميلاد "بعد اتحاد ثلاث مستعمرات"، وأنّ اسمها يعني "المدن الثلاثة" (يُفترض أنْ تُكتب "المدن الثلاث"). يُشير إلى خضوعها لأكثر من حُكمٍ، بدءاً بالفينيقيين: الفرس والإغريق والرومان والبيزنطيين والأمويين والعباسيين والفاطميين والصليبيين والمماليك والعثمانيين والفرنسيين. يُنهي الكتابة بالتالي: "تترقّب طرابلس يوم قيامة وشيك"، مُضيفاً أنّ "كاهلها" مُثقلٌ بـ"هلع أخلاقي وثورة متعثّرة وأزمة اقتصادية خانقة".
الجملة الأخيرة أصدق وصفٍ لمدينةٍ، يتعاقب على تحطيمها، أقلّه منذ النهاية المزعومة للحرب الأهلية اللبنانية (1975 ـ 1990)، أكثر من جهة، لبنانية وسورية تحديداً. فتلك الحكاية التي يرويها الرافعي بكاميرا (تصوير وإضاءة: جوسلين أبي جبرائيل) تتجوّل في أفكارٍ وعيشٍ وأزقّة، تكشف شيئاً من خراب اجتماعٍ أساساً، مع أنّ لقطات شبه عابرة، لملصقات وصُور كبيرة لسياسيين، تقول إنّ خراباً آخر يترافق وخراب الاجتماع. والشخصيات الأساسية التي يحاورها الرافعي في مسائل حياتية وفردية وعامة، تُكمِل المشهد بكلامٍ مستلّ من أعماق ذات وبيئة ومدينة، في لحظةٍ لبنانية مُسرفة بدمار وتخلخل كبيرين.
البناء البصري للحكاية مشغول بتقنية توثيقية عادية، فالهمّ الأبرز للرافعي كامنٌ في ثنائيةٍ واضحة: عودته إلى مدينته (تُشبه عودة أكثر من شخصية أساسية)، ورغبته في فهم راهنها (كرغبة بعض الشخصيات أيضاً). أمّا المعلومات التاريخية المذكورة في البداية، فإشارة مُضمرة إلى مكانة المدينة في التاريخ، وقِدمها؛ وتعدّد حكّامها انعكاس لمدى أهميتها الجغرافية والاجتماعية والاقتصادية. بناء بصري يُوثّق المرويّ على ألسنة ليا زريقة وإيلي داوود وفاطمة فؤاد ونور دملج وبدر الصفدي ونذير حلواني، والتقاط نبض الشارع عبر أفرادٍ في مقهى أو على شاطئ أو في نزهةٍ، وآخرون وأخريات يلتقون في غرفة لنقاشٍ عن نظرة الفرد إلى الآخر، عندما يكون الآخر مختلفاً عن تفكير جماعي في مدينة محافِظة.
أكثر من وثائقيّ لبناني، حديث الإنتاج، يُصوّر لقاء بين أفرادٍ (أقلّ عددٍ يتجاوز السبعة) في نقاشات حول مسائل مختلفة. هذا غير سليم بصرياً، إذْ يُلاحَظ غالباً أنّ التوليف يُشوِّه، بطريقة ما، ما يقوله هؤلاء. في "حكاية المدن الثلاثة"، هذا حاصلٌ أيضاً، والكلام يتناول نظرة العامّ (البيئة، المجتمع، التفكير الجماعي، التربية، التقاليد، إلخ.) إلى الفرد (المثلية الجنسية تحديداً). كثرة المشاركين والمشاركات في لقاءات جماعية يُصوّرها فيلمٌ وثائقي، عامل سلبيّ في فيلمٍ يُراد له كشف راهن مدينةٍ، تعيش تاريخياً تقلّبات متنوّعة الأشكال والتأثيرات.
الشخصيات الأساسية حاضرةٌ في قول وتصرّف وشرودٍ، وأسباب العودة إلى المدينة مختلفةٌ، مع أنّ هناك شيئاً يكاد يكون مشتركاً بين الجميع: استعادة ماضٍ شخصيّ، غير حاضرٍ في الراهن، وخوفٌ من موتٍ في غربة. مع أنّ هناك من يستعد لسفرٍ، ستبقى مدّته مجهولة، أو ربما غير مهمّة، فالمدينة دافعٌ إلى عودة/سفر، وهذا أساسيّ رغم كونه مبطّناً في ثنايا النص البصري.
ثقل الموروث المحافِظ والتقليدي، في شؤون مختلفة، يُقابله جهدٌ فرديّ لتفعيل الاختلاف في بيئة متشدّدة وفقيرة، تطمح إلى عيشٍ أهدأ وأفضل. لكلّ شخصية حكايتها، والروايات يلتقطها رائد الرافعي في فيلمٍ، سيبقى شهادة على واقع قاسٍ، وشرخٍ كبير، ومستقبل غامض.