استمع إلى الملخص
- يتناول الفيلم تحديات أنجيلا اليومية، خاصة مع اقتراب ولادة طفلها، ويظهر قلقها الداخلي ورغبتها في الانكفاء، مع التركيز على الفوارق بين الأصمّ والعادي.
- بمهارة سينمائية، تستغل ليبرتاد الزمن لتقديم مراحل الحمل والولادة، وتطرح تساؤلات حول قبول الآخر المختلف، مما يفسر حصول الفيلم على جائزة في مهرجان برلين السينمائي.
"صمّاء" (2025)، للإسبانية إيفا ليبرتاد، على عكس أفلام كثيرة تتناول حيوات شخصيات تعاني إعاقات جسدية، تُكتب وتجسّد سينمائياً، غالباً، بإقرانها بشخصيات ملازمة لها، تُكلّف بمهمة المساعدة في التعبير عن دواخلها بصيغ مختلفة، كما في "فورست غامب" (1994) لروبرت زيميكس مثلاً، رغم أهمية الفيلم في أكثر من مستوى.
عند ليبرتاد، الأمر مختلف تماماً. فهي لا تريد توكيل مهمة التعبير عن جوانيات بطلتها الصمّاء أنجيلا (أداء مذهل لمريام غارلو) لشخصٍ آخر. فنصها المتفرّد (السيناريو لها أيضاً) نَقَل عالم الصُمّ وتعقيداته من وجهة نظر امرأة عادية، تعاني مشكلة اختلافها عن "السوي" العام بإعاقة تريد التعايش معها وفق ما تريد.
لذا، على النص السينمائي أنْ يتيح لها مساحة واسعة للتعبير عن حالتها الخاصة، من وجهة نظرها، لأنّها في النهاية الأقدر على التعبير عن جوانيّاتها ومعاناتها. وعلى السينمائي، المقتَرَح لمعالجة حالتها الإنسانية من تلك الزاوية الخاصة، أنْ يجري بحثاً مُعمّقاً واشتغالاً سينمائياً متفرّداً، يراهن أولاً على ممثلين لا يمتلكون موهبة التعبير عن شخصيات مختلفة التكوين ـ جسدياً ونفسياً ـ بعمق وإقناع فحسب، بل يقدرون على مجاورة سلوك عام، يعاملها معاملة شخصية عاجزة، تعيش عالماً لا يشبه عالمهم، ولا تنتمي إليه. يتجلّى ذلك الموقف الجاهز من الإعاقة في الصدمة المكتومة التي يُحدثها مفتتح الفيلم، حين تظهر أنجيلا مع زوجها هكتور (ألفارو سرفانتس) وهما يتداولان بالإشارات في الاسم الذي سيمنحانه لمولودهما المنتظر.
تبدو أنجيلا مُكتفية بعالمها الداخلي، وبحب زوجها لها. تَعلُّمُه من أجلها لغة الإشارة يُسهّل التواصل بينهما. عملها في ورشة لصناعة الأواني الفخارية مريح، لها فيه صداقات عمل متفهّمة وقابلة وجودها. لا يضفي النص أي خصوصية أو تميز لبطلته. يُظهر ببراعة قلقها الداخلي ورغبتها في الانكفاء. ينقل قوة شخصيتها وعاديتها في آن واحد. يتابع بروية تصاعد الأسئلة المؤجّلة فيها، مع اقتراب إنجابها: هل سيكون الطفل أصمّ أمْ "سوياً"؟ تأخذ الزيارات العادية لأصدقاء تفكيرها إلى الفوارق الموجودة بين الأصمّ والعادي، وكيف أنّ فرزاً حاصلاً بينهما لم تلتفت إليه جيداً إلا عندما بدأت تراقبه بعين أمّ تخاف أنْ يكون ولدها بين المختلفين.
تستغل ليبرتاد الزمن السينمائيّ بمهارة لافتة للانتباه. اختصار مدروس لمراحل الحمل والولادة، وبروز المشاكل المترافقة لنموّ طفلة سليمة السمع، تقترب من والدها أكثر من أمها بسبب عامل اللغة والإشارة الفاعلين. تأخذ المخاوف، الكامنة في صعوبة التكيّف مع اختلاف وسائل التعبير الجسدية واللغوية بين الأم وطفلتها، في توسيع دائرة البحث في حالة "مرضية"، تضع الجميع أمام سؤال القبول بالآخر المختلف. في مجتمع أوروبي منفتح، يغدو السؤال مبرّراً أكثر، ومُحفّزاً على مفاتحة صادقة مع الذات.
بذكاء، تبتعد صانعته عن الخوض فيه مباشرة، فتجعله هامشياً مضموماً لحالة تريدها أنْ تبدو خاصة في سياق أطروحات نفسية وطبية، لا تعتبر الصمم حالة موحدة الأعراض كبقية الأمراض الجسدية والاضطرابات النفسية، بل هناك شبه اتفاق على اعتبار كلّ حالة صمم لا تشبه الأخرى، وأنّ درجة تأثّر المُعانين منها تختلف من شخصية إلى أخرى.
هذا الطرح النظري يبدو مقبولاً لدى كاتبة النص، التي تميل إلى عرض حالة بطلتها، والتعامل معها حالة خاصة بامرأة وأمّ تُدعى أنجيلا، تخضع حالتها لعملية تشريح سينمائية. تظهر هشاشة دواخلها حين تترك الساحة لزوجها، ليؤدّي دورها من دون إدراك أو تعمّد منه. يأتي استلابه وبقية العائلة لدورها جرّاء مخاوف لديهم من عدم سماع الأم الصمّاء بكاء طفلتها، ومن ضعف تفاعلها مع بقية آباء دار الحضانة وأمهاتها، وفي الشارع والبيت خشية تعرّض الطفلة للخطر جرّاء عطل سماعها. كلّ المخاوف تلك تدفع الأب إلى تأدية دور الأم. الانكفاء مؤذٍ، والعزلة تتزايد بتزايد التباعد بين الزوجين.
لنقْل ذلك، تقطع ليبرتاد شريط الصوت تماماً في مقاطع طويلة من "صمّاء"، لتحدث حالة من التقارب الشديد بين المتلقي والمرأة المنسحبة إلى العالم الصامت للصُمّ، ولتقرّبه أكثر من حالة الصمّ الداخلية الحاصلة للمرأة في لحظة انكسارها.
التفاصيل الدقيقة للحالة النفسية للصمّاء، والتعبير الجسدي عنها تمثيلاً، مُثيران للسؤال عن عمق البحث الكتابي، والفهم الإخراجي للمادة المُراد معالجتها سينمائياً. ليس مستغرباً لهذا أنْ يأخذ "صمّاء" مُشاهِده إلى عالم لا يعرف الكثير عنه، بل ربما يجهله تماماً. لكنْ، ما إنْ يمضي معه على الشاشة، حتى ينسى اختلافه عن المألوف من قصص اعتادها. هذا لن يدوم إلى النهاية، فهناك قلق خفي يُسرّب إليه خفية، يدفعه إلى الدنو من تلك الشخصيات، وربما يدفعه إلى التساؤل أيضاً عن تفاصيل عالمهم البعيد عن اهتمامه.
هذا ربما يُفسّر نقدياً سبب نيل "صمّاء" جائزة جمهور قسم "بانوراما"، في الدورة الـ75 (13 ـ 23 فبراير/شباط 2025) لـ"مهرجان برلين السينمائي (برليناله)".