استمع إلى الملخص
- السينما المصرية هيمنت على الساحة العربية بفضل استقطابها للفنانين والممولين، ونجيب محفوظ يرى السينما كوسيلة فعّالة للوصول إلى الجماهير، مما يعكس العلاقة التبادلية بين الأفلام والمجتمع.
- تواجه السينما العربية تحديات في التكيف مع المتغيرات الاجتماعية والتكنولوجية، حيث تراجعت صالات السينما أمام التلفزيون والشاشات الإلكترونية، وتعاني الأفلام من نقص المصداقية في السرد البصري والاعتماد على الكوميديا المرتجلة.
المتأمّل في تاريخ صناعة الأفلام العربية يكتشف، بسهولة، أنّها محاولات لمجاراة العصر، بما قدّمه من تكنولوجيات تستطيع تحويل الفنون الترفيهية إلى عرض واحد، في اندفاعة قوية تجاه هذه التكنولوجيات، التي (الفنون) تُمثّل إلى حدٍّ كبير تطلّعات الشعوب العربية إلى الترقّي ـ الحداثة، من دون معرفةٍ جماهيريةٍ عميقة باستحقاقات هذا الترقّي ـ الحداثة، إذْ تمّ استجلاب التكنولوجيات المستحدثة لاستخدامها في تجميع العرض الترفيهي الواحد، واستخدام أفرادٍ من جاليات أجنبية تعرف، بشكل تجريبي، تشغيل الماكينات التي قدّمت للجمهور في العالم الخارجي ترفيهاً حديثاً وحداثياً، يتناسب مع متطلّبات عصره الثقافي والمعرفي.
هذه كانت المعضلة الكبرى في التعامل مع السينما، في بداياتها العربية. فالخزين الثقافي ـ المعرفي لهذه الشعوب لم يكن يستوعب هذه النقلة النوعية، رغم التسهيلات اللغوية. والحوار باللغة العربية، أو بإحدى لهجاتها، يوفّر سوقاً ممتدّة في العالم العربي كلّه. إلاّ أن السينما اخترقت ضعف الاستيعاب هذا، وصنعت الأفلام كقطاع اقتصادي واعد، إلى درجة أنّ أحد أكبر رجالات مصر وقتئذٍ، أي طلعت حرب، أسّس شركة مساهمة باسم "شركة مصر للتمثيل والسينما (ستوديو مصر)"، أرسلت، إضافة إلى تأمينها البيئة التكنولوجية الكافية لتصوير الأفلام، شباباً إلى أوروبا لدراسة السينما، كأحمد بدرخان وموريس كساب ونيازي مصطفى. وكانت باكورة إنتاجها "وداد" (1936) لفريتز كرامب وأحمد بدرخان، تمثيل أم كلثوم. والفيلم غنائي غرامي محتشم.
من هنا، بدأ مصطلح الفيلم العربي يعني الفيلم المصري. والمقصود بهذا الفيلم الروائي الطويل، المحسوب استثمارياً. بعده، صار يُقصد بالفيلم العربي الفيلم المصري كمصطلح شائع، رغم تجارب سينمائية أخرى، كالسوري "المتّهم البريء" (1928) لأيوب بدري، واللبناني "مغامرات الياس مبروك" (1929) لجوردانو بيدوتي، وغيرهما. ومع فوارق زمنية مختلفة، تأخّرت السينما العراقية إلى عام 1955، مع "فتنة وحسن" لحيدر العمر، والجزائرية إلى عام 1965، مع "الليل يخاف الشمس" لمصطفى بديع.
هذا لا يعني انعدام السينما في هذه البلدان. لكنّ هذه التجارب كلّها بقيت هامشية، وذات استثمار تجاري خاسر، أمام تدفّق السينما المصرية، التي استقطبت فنانين ومموّلين من العالم العربي. فأفلام المغنية اللبنانية صباح تجاوز عددها 85 فيلماً، إلى عام 1986، ما يُعزّز مسيرة هذه الصناعة في عالمٍ عربي يتقبّلها بلهجتها ومواضيعها.
يقول نجيب محفوظ، أحد آباء السينما المصرية ـ العربية كسيناريست: "طالما نظرت إلى السينما باعتبارها وسيلة فعّالة في الوصول إلى جماهير، لم أكن لأصل إليها بالأدب". في هذا، يُلخّص محفوظ علاقة الأفلام (الإبداع عامة) بالناس العاديين، مُعتبراً أنّها صلة وصل مُيسّرة لإعطاء الناس جرعات فنية تُعتبر من حقّهم، للدخول في العالم الحديث، كضرورة للاستمرار في هذا العالم. بهذا، لا يكشف محفوظ مستوراً، بل مسكوتاً عليه إلى الآن. هذا حقّ الناس برؤية أحوالهم وأفعالهم ومصائرهم. فرغم أنّه لا يُبخّس أو يُثمّن الأفلام ونوعيّاتها، يرصد العلاقة التبادلية بين الأفلام والناس، ويجعلها ضرورية للعيش، تماماً كالأدب وسائر أنواع الإبداع.
كان لا بُدّ لتبادل التأثّر والتأثير بين "الزبائن" وصنّاع الأفلام أنْ ينوجد، فاشتهرت مقولات شبه نقدية طرحها الصنّاع، وأبرزها "الجمهور عاوز كده". في مقابلها، طرح الجمهور مقولة "قصّة أمْ مناظر"، ما أطّر العلاقة التبادلية بوضع شبّاك التذاكر حَكماً بين الجميع. فالفيلم الناجح يستردّ أموال إنتاجه، ويربح للاستمرار في الإنتاج والصناعة. بين المقولتين الشهيرتين، نشأت العلاقة بين الطرفين، ونتجت مقولة ثالثة ليست شهيرة: "السينما فيلم وصالة وجمهور". ورغم كلّ التعريفات العاطفية لهذه المقولة، بقيت الصالة مكاناً حصرياً لمُشتري التذاكر، الذين يُموّلون الفيلم المقبل.
على الآنف ذكره، بُنيت العلاقة بين السينما والمجتمع، وعلينا هنا إضافة المجتمعات الناطقة بالعربية، خاصة أنّه مع ظهور هذه السينما، بدأت الحراكات الاجتماعية بالتمظهر على شكل جمعيات ونقابات وأحزاب وإيديولوجيات، كانضواء تبسيطي في الحداثة العالمية.
فما الذي تريده السينما من وجودها؟ ماذا تريد المجتمعات من هذا الوجود؟ أحجية حلّتها معظم سينمات العالم، وبقيت السينمات والأفلام "العربية" واقفة على بواباتها حتى أيامنا هذه، لا تدري أعليها الاستمرار أم الاستقالة. هذا مأزق استمرّ طويلاً، ولا تبدو نهاياته سعيدة حتى الآن، منذ تقلّص عدد صالات السينما في العالم العربي، وهجرها الجمهور، وهذا يُعتبر خيانة للحداثة والإبداع من "المجتمع" للسينما باللجوء إلى الفيديو المنزلي المُراقَب جيداً، خضوعاً لسياقات اجتماعية ساهمت التكنولوجيات الحديثة في صنعها.
أثبتت "المجتمعات" العربية تردّدها حيال السينما والموقف منها، فلم تكن قادرة على إعطاء السينما الصفة الاجتماعية، لتجعلها في مصاف الفن. والفن بطبيعته يرتقي وتتعدّد وسائل توصيله (صالة، فيديو منزلي، شاشة كومبيوتر). والمجتمعات الفعّالة لا تلغي فناً يُعبّر عن فترة معرفية معينة، بل عليها أنْ تتطوّر، فكل الموسيقا الحديثة والحداثية بأنواعها لم تلغِ دار الأوبرا والفرق السمفونية، بعكس "المجتمعات" المستهلكة للتكنولوجيات، التي تتجه إلى الأرخص والأسهل، إنْ كان تحت شعارات أيديولوجية، تمنع وتسمح، أو تحت ضغط قلّة الهمّة في تقبّل الجديد من وسيلة قديمة. في هذا فراغٌ لا يُمكن رأبه أو القفز فوقه، ولا يبقى إلّا الدوران حوله لتجاوزه.
هذا واقع السينما ـ السينمات العربية الآن. فالتلفزيون وسيلة العرض الأكثر طغياناً، تُضاف إليه الشاشات الإلكترونية، لتبقى صالة السينما فارغة، فيسقط الضلع الأول من المثلث.
لا يوجد عمل إبداعي في العالم من دون تأثير محلي فيه. فالمحلية تظهر في العمل، شاء صانعه أمْ أبى. ورغم تأثّر السينمات العربية بالأفلام العالمية، إلى درجة الأخذ منها الحدوتة السينمائية (هناك أمثلة كثيرة عن هذا الأخذ)، تبقى المعالجة الكتابية والبصرية حاضرة بقوة في الأفلام الناطقة بالعربية، وأولها الفضيلة والاحتشام.
ورغم أنّ أفلام خمسينيات القرن الـ20 وستينياته وسبعينياته زاخرة بمشاهد الملابس المتحرّرة، كانت تُلبّي متطلبات جمهور يعشق الكباريه سرّياً، فكانت الأفلام الغنائية التي تعجّ بملابس الرقص الشرقي المُثيرة، وتبعتها أفلام التشريح الاجتماعي، التي عرضت أجساداً كثيرة، بحاجةٍ إليها أو من دون الحاجة إليها. وهذا ضمن الانسياق في سيرورة الفيلم العالمية، بعيد ظهور الواقعيتين الإيطالية والفرنسية، إضافةً إلى مستلزمات الفيلم الأميركي. ولا تزال مواقع إلكترونية تعرض المزيد من المَشاهد التي تُعتبر الآن خادشة للحياء، مع أنّها في زمنها لم تؤثّر في المجتمعات، ولم تؤدِّ إلى انهيار الأخلاق وتفكّك المجتمع. ومع ارتقاء السينمات العالمية في التعبير، بغضّ النظر عن الحياء العام والخاص، انتكست الأفلام العربية إلى ما دون التعبير عن شرط الواقع، وإلى تصوّر مجتمع معقّم لا يستجيب لدواعي الدراما في صناعة مشاهد بصرية تخضع لشرط الواقع.
من هنا، يبدو الضلع الثاني، بتفكّكه، جاهزاً للسقوط. فلا مصداقية للسرد البصري، التي تُكثّف التفاعل الإنساني وتُقدّمه بكامل دسمه. لذاً، تمّ التلطي وراء الكوميديا المرتجلة، في اقتراحات من فانتازيا مزيّفة، يذهب فيها الممثل والممثلة إلى أقصى حالات التهريج المحتشم، وفيها ضياع كثير لدقائق ثمينة من مدّة الفيلم.
هنا، لا بد من رصد آلية تأثير الجمهور في تحديد حدود للتعبير عبر السينما، إلى درجة تقديم قضايا جنائية بحقّ الممثلين والممثلات. كان هناك إعلام فني (مطبوعات وسوشيل ميديا) تترصّد للفنانات فساتينهن وزلّات ألسنتهن، كردّ فعل اجتماعي تأثيري على التصنيع السينمائي. هذا التأثير المُحبط يقامر بحقوق الناس، الذين عليهم تناول وجبة الفن الضرورية، إذا تمثّلنا مقولة محفوظ آنفة الذكر.
في أمثولة السينما هذه، يبدو الاجتماع العربي ممتنعاً عن تقبّل الإبداع بشروطه، بسبب الاعتياد الطويل على الخضوع الإيديولوجي، الذي يتمثّل بالإمتناع عن النشاط الاجتماعي العام، وبالتالي الإفلات من ممارسة الاندماج كإحدى القِيَم العليا للبشرية.