استمع إلى الملخص
- يستند المعرض إلى كتاب "عبيد الموضة" لمونيكا ميلر، ويظهر كيف كانت الأزياء أداة مقاومة ورمزاً للنجاة والاحترام، كما فعل فريدريك دوغلاس ودابر دان.
- يعكس المعرض تحول سياسات المتاحف الكبرى نحو قراءة التاريخ من زاوية الهويات المهمّشة، ويعيد الاعتبار للموضة كوثيقة تاريخية ومساحة للمقاومة والتعبير عن الذات.
بين بذلة مخملية أرجوانية، تعود إلى أربعينيات القرن التاسع عشر، كانت مملوكة لعبد مجهول، وملابس رسمية تخص المناضل ضد العبودية فريدريك دوغلاس، تبدأ حكاية معرض "سوبرفاين: تفصيل الأناقة السوداء" (Superfine: Tailoring Black Style)، الذي يحتضنه متحف متروبوليتان للفنون في نيويورك حتى 26 أكتوبر/تشرين الأول المقبل. في تلك القاعات، لا يُنظر إلى الأزياء بوصفها مجرد ترف جمالي، بل باعتبارها وثائقَ حية تسرد قصة ثلاثة قرون من الصراع والذوق والهوية.
يضم معرض سوبرفاين أكثر من 200 قطعة موزعة على 12 قسماً، لكل منها زاوية خاصة مثل الاحترام، والجمال، والإرث، والعالمية. في قسم الاحترام، تُعرض بذلات تقليدية صارمة، ارتداها رجال سود لإقناع مجتمعاتهم بأنهم جديرون بالاعتبار. وفي أقسام أخرى، تطل أعمال مصممين معاصرين مثل أوليفييه روستينغ وغريس ويلز بونر، إلى جانب إبداع فيرجيل أبلوه الذي غيّر وجه الموضة قبل رحيله في عام 2021. وفي الخلفية يلوح أثر أندريه ليون تالي، المحرر المتميز في مجلة فوغ، الذي تحوّل بشخصيته الغرائبية وملابسه الفخمة إلى أيقونة لما يُعرف بالداندية السوداء (Black Dandyism).
يُقصد بالداندية السوداء ذلك الأسلوب الذي اعتمده الرجال السود منذ القرن الثامن عشر في ارتداء الأزياء الأنيقة والفاخرة، لإثبات الوجود الاجتماعي، ومواجهة الصور النمطية المرتبطة بالعبودية والفقر. وبالرغم من أن الداندية نشأت أصلاً في أوروبا علامة على الترف الطبقي، فإن السود أعادوا توظيفها لتصبح أداة مقاومة رمزية. فاختيار بذلة أنيقة أو قبعة عصرية لم يكن مجرد مسألة ذوق، بل كان إعلاناً عن الكرامة والإصرار على الاعتراف بالمكانة الاجتماعية. مع مرور الوقت، تفرعت هذه الظاهرة بين المحافظة الرسمية التي مثلها فريدريك دوغلاس، وبين الجرأة والابتكار، كما فعل دابر دان في هارلم، وصولاً إلى رموز معاصرة جعلت من الأزياء خطاباً ثقافياً كاملاً يعبّر عن الهوية السوداء بفخر.
تنطلق الفكرة الأساسية للمعرض من هذه الخلفية، مؤكدة أن الموضة لم تكن يوماً مجرد زينة، بل أداة للتأقلم مع الواقع الاجتماعي. بالنسبة إلى السود في أميركا وأوروبا، كان اختيار الزي جزءاً من معركة يومية لإثبات الوجود. فحين ارتدى دوغلاس ملابسه الرسمية بعناية، كان يدرك أن كل تفصيلة في مظهره تمثل جزءاً من خطابه السياسي ضد العبودية. وحين أعاد دابر دان صياغة شعارات دور الأزياء الأوروبية في ثمانينيات القرن الماضي بما يناسب الذوق المحلي، فإنه لم يكن يقلّد بقدر ما كان يعلن عن سيادة ثقافة جديدة، ذات خصوصية سوداء.
المرجع الفكري للمعرض يعود إلى كتاب الأكاديمية مونيكا ميلر "عبيد الموضة" (Slaves to Fashion)، الذي تتبعت فيه مفهوم الداندية السوداء في الشتات الأفريقي. ميلر، التي شاركت أيضاً في الإشراف على المعرض مع أمين معهد الأزياء أندرو بولتون، ترى أن الداندية لم تكن مجرد حس بالموضة، بل استراتيجية للنجاة وفرض الاحترام. يقول بولتون إن "الداندية السوداء فكرة بقدر ما هي هوية"، في إشارة إلى أن المعرض لا يتعامل مع الأزياء بوصفها أشياء جامدة، بل هي خطاب اجتماعي وسياسي متكامل.
نجح القائمون على معرض سوبرفاين في المزج بين التاريخ واللحظة الراهنة. فمن جهة، هناك القطع القديمة التي تكشف كيف استُخدمت الأزياء لتقييد أو لفرض حضور الأسود في مجتمع أبيض؛ ومن جهة أخرى، هناك أسماء معاصرة أعادت تعريف الموضة العالمية من منظور مغاير. هكذا يخرج الزائر برؤية ممتدة من لحظة العبودية إلى ثقافة الشارع المعاصرة، مروراً بمرحلة الاندماج، وصولاً إلى مرحلة التأثير والقيادة.
اختيار متحف متروبوليتان لموضوع كهذا يعكس تحوّلاً لافتاً في سياسات المتاحف الكبرى، فالمؤسسة التي عُرفت لعقود بتركيزها على الموروث الأوروبي الكلاسيكي، تفتح اليوم أبوابها لقراءة التاريخ من زاوية الهويات المهمّشة. صحيح أن المعرض يغطي مساحة واسعة قد تربك بعض الزوار، لكنه في النهاية يقدم سردية متعددة الأصوات، وهذا ما يجعله أكثر حياة وأقرب إلى أسئلة الحاضر.
معرض سوبرفاين يعيد الاعتبار إلى الموضة، باعتبارها وثيقة تاريخية، فهي تسجل في طياتها صراعات الهوية والطبقة والذوق. ومن خلال تلك القطع، نرى كيف واجه السود محاولات التهميش عبر التأنق المفرط أحياناً، أو عبر إعادة ابتكار العلامات الفاخرة بما يلائم بيئاتهم. إنها قصة تثبت أن الأزياء لم تكن سطحاً عابراً، بل مساحة للمقاومة والتعبير عن الذات. يبرهن المعرض أيضاً أن الموضة يمكن أن تكون أداة للكرامة بقدر ما هي أداة للجمال، وأن خزانة الملابس قد تخفي في طياتها تاريخاً معقداً من الحرية والمقاومة.