استمع إلى الملخص
- بُني سجن المزة خلال الاحتلال الفرنسي وتحول إلى سجن سياسي بعد انقلاب 1949، وأصبح رمزًا للقمع السياسي في سوريا، حيث استخدمه النظام لتصفية الحسابات مع المعارضين.
- مع الثورة السورية في 2011، أصبح السجن مركز اعتقال وتعذيب للمخابرات الجوية، مما جعله رمزًا للرعب، واكتشف السوريون الفظائع داخله بعد سيطرة المعارضة.
"الأسد يغلق سجن المزة ويحوّله إلى معهد للعلوم التاريخية". هكذا عنونت جريدة النهار أحد مقالاتها في شهر نوفمبر/تشرين الثاني عام 2000. كان الأمل حينها أن سورية تدخل عصراً جديداً؛ إذ أصدر الرئيس المخلوع عفواً عن 600 معتقل في السجن الشهير، من دون أن يُجبروا على توقيع تعهّد بعدم ممارسة أي نشاط مناهض للنظام، بل إن الموظفين منهم كان بإمكانهم العودة إلى أعمالهم، في سابقة ظن السوريون بعدها أن سجن المزة كان صفحة طويت من التاريخ من دون رجعة، لكن من بعدها بدأ الأسد الفارّ صفحة أخرى من المكان نفسه، لا تقارَن بسابقتها شناعةً وبؤساً.
بنى الاحتلال الفرنسي سجن المزة العسكري على هضبة جرداء في قرية المزة، وتحوّل إلى منشأة تأديبية للجيش. لكنه مع انقلاب حسني الزعيم في مارس 1949 تحوّل إلى معتقل سياسي، إذ تقول المصادر إن رئيس الوزراء خالد العظم اقتيد إلى السجن العسكري الذي نزل فيه عدد كبير من سياسيي تلك الفترة، كان من بينهم حافظ الأسد نفسه عقب الانفصال. السجن تحوّل إلى ظاهرة رافقت الحياة السياسية الصاخبة في سورية منذ الاستقلال، وكثيراً ما وجد سجانوه أنفسهم داخل قضبانه؛ فعبد الحميد السراج الذي تولى إدارة المخابرات العسكرية (المكتب الثاني) وعدداً من المناصب الأخرى، استخدم سجن المزة للتنكيل بخصوم النظام الجديد، خصوصاً أعضاء وقيادات الحزب الشيوعي السوري، ليجد السرّاج نفسه بعد الانفصال داخل سجنه، قبل أن يهرّبه جهاز الاستخبارات المصري.
مع وصول حافظ الأسد إلى السلطة، ظل سجن المزة العسكري يُستخدم بكثافة، لكنه أخذ بُعداً رمزياً جديداً مع تشييد القصر الرئاسي في بداية الثمانينيات على هضبة أخرى مقابلة للسجن؛ فباتت هاتان الكتلتان المعماريتان تجسيداً لمرحلة جديدة في تاريخ سورية، شكّل السجن والقصر أركانها الأساسية، إذ عملا معاً لتفكيك الحياة السياسية في البلاد، ومحاولة إخصاء قواها السياسية التي أدت أدوراً محورية في النضال ضد الاستعمار، وانخرطت في الحياة السياسية بعد الاستقلال.
لكن، مع وصول بشار الأسد إلى السلطة، بدأ ببعث رسائل طمأنة لفترة قصيرة، عادت خلالها بعض المنتديات السياسية للعمل وسط دمشق، قبل أن يعود النظام إلى مساره الثابت في خنق أي نشاط سياسي يمكن أن يشكل تهديداً على بنيته السياسية القائمة.
وما إن بدأت الحركة الاحتجاجية في 2011، عاد السوريون يسمعون مجدداً عن "المزة"، لكن هذه المرة في موقع مختلف ملاصق لمطار المزة العسكري؛ إذ سارع فرع المخابرات الجوية إلى نصب حواجز أمام المطار حوّلت الحياة اليومية للسوريين إلى جحيم، وفرضت عليهم عبور نقاط تفتيش أمنية استغرق المرور عليها ساعات، وساهمت في فصل مدينة دمشق عن ريفها في داريا والمعضمية، وغيرها من المناطق التي تحوّلت سريعاً إلى مراكز نشاط أساسية للمعارضة السورية. ظل كثير من السوريين لا يدركون تماماً ما كان يجري وراء هذه الجدران والأسوار الإسمنتية، حتى بدأ الناشطون يبلغون عن اعتقال العشرات داخل المطار في منشأة باتت تبث كغيرها الرعب في قلوب الملايين.
سجن المزة الجديد ضم قسمين، أحدهما خُصص للرجال وآخر للنساء، مورست داخلهما شتى أساليب التعذيب، وصلت، بحسب الشبكة السورية لحقوق الإنسان، إلى 72 أسلوباً مختلفاً تتدرج بين مختلف أنواع العنف، وصولاً إلى الصعق بالكهرباء، وحتى الحرق بالزيت أو المبيدات الحشرية وغيرها من الجرائم. قال أحد السجناء السابقين في المزة (رفض التصريح عن اسمه)، في تصريح لـ"العربي الجديد": "تعرضت لمختلف أنواع التعنيف، شُبحت وعلّقت على سياج، تعرضت لصدمات عدة على كرسي الكهرباء، وأخيراً اعترفت بما لم أرتكبه".
بعد أن سيطرت قوات المعارضة على العاصمة، وولّى السجانون هاربين، وجد السوريون أبواب السجون مفتوحة من دون حراس، وتمكن المئات منهم من الولوج إلى أقبيتها المظلمة، لكن ذلك لم يكن كافياً لتبديد ذعرهم الدفين. ففي سجن المزة العسكري، نرى بعضهم وقد تردّدت خطواتهم على درجات الأقبية النتنة. ربما "زار" عدد منهم السجن سابقاً، ولا يستطيعون اليوم صمّ آذانهم عن أصوات لا يزال صداها يتردد بين جدرانه وداخل غرف التعذيب. هناك وقفت خديجة تتأمل أكوام الصور وتبحث فيها عن صورة لابنتها المفقودة التي تنتظر عودتها منذ سنين.
تكفي جولة واحدة داخل السجن لتغذي المخيال ولإعادة بناء فضاء السجن واستحضار سجانيه الهاربين، ولا تكفي أبوابه المشرَعة لتبديد كل ذلك؛ فيتسلل ضوء الشمس عبر حواجز كثيرة تمنعه من إضاءة الزوايا المعتمة. وفي هذه الظلمة الخانقة، تنير أضواء فلاشات الهواتف المحمولة للزوار الفضوليين الجدران، وتُظهر مئات الرسائل التي ملأت الحيطان وكُتبت بالصابون وحفرت بأظافر سجناء، بعضهم من قضى تحت التعذيب، وآخر خرج محملاً بذكريات، غالباً سيُهزَم في معركته مع نسيانها.
ففي قسم النساء وداخل أحد زنازينه المنفردة، خطّت إحداهن عبارة قاسية كُتبت بلون الصابون العسكري الأخضر الشاحب: "أولادي وأحفادي اشتقتلكم". زُجّت هذه المرأة في زنزانة منفردة، ربما كانت نسوة أخريات قد كتبن على جدرانها، وربما تكون هي أو امرأة أخرى رسمت على الحائط خربشات طفولية لوجه رجل وامرأة مع الحرف الأول من اسمها والحرف الأول من اسم محبوبها البعيد.
في داخل زنازين أخرى، هناك رسومات تدمي القلب من شدة براءتها؛ فرسمت واحدة من النساء فساتين وتنانير، بينما ارتمت على الأرض دمى للأطفال وحفاضات بلون أحمر كسر رمادية السجن. ويعتقد أبو جرّاح (أحد عناصر هيئة تحرير الشام المنتشرين داخل المنشأة العسكرية) أن أطفالاً كانوا هنا قدموا مع أمهاتهم، أو ربما وُلدوا داخل السجن جراء اغتصاب الفتيات. وهذه الحالات كانت جزءاً من روتين بعض النساء داخل السجن.
كل الرسومات تعكس سادية السجان والعبودية التي يتعرض لها السجناء؛ إذ نقلت صحيفة ذا ديلي ميل عن سجين في "المزة" قوله إن أحد الضباط أخذ "هتلر" لقباً له، وكان الضابط المعجب برموز الفاشية، يهوى عروض "الترفيه" ويجبر السجناء على التصرف مثل الحيوانات أمام ضيوفه، فينبحون ويموؤون ويصيحون.
قصص كثيرة ستظل تخيّم على أفكار السوريين، وستكون سلاحاً في أيديهم لكي يغلقوا سراديب الظلم هذه. السجناء داخل "المزة العسكري" وغيره رسموا على جدرانه تقويماً خاصاً، حاولوا من خلاله إحصاء أيامهم داخل الأقبية، لكنهم في الوقت نفسه يثبتون وجودهم في التاريخ، فالتقويمات البدائية على جدران السجن ستظل شاهدة على ما جرى داخل أسواره، ومئات الوثائق المتناثرة ستظل أدلة ملموسة على ما جرى. هذه الأوراق تكاد تكون كنزاً لا يمكن التفريط فيه لبناء المستقبل، وهي اليوم عرضة للتلف والسرقة، ويجري تناقلها من يد إلى أخرى بدلاً من جمعها وحفظها ودراستها، في إحداها قصة أحد الموقوفين (اسمه رامي) أخذه سجانوه إلى الخارج للإيقاع بآخر، واستخدموا الشاب طعماً.
السجين الذي يشير التقرير إلى لياقته البدنية وبنيته الرياضية لم يستطع إلا أن ينفّذ ما طلب منه، وفي لحظة غفل عنه حراسه قفز بحركة خاطفة من الشباك منتحراً. هكذا ببساطة لم يرَ رامي أي مخرجٍ من سراديب المزة وغرف التعذيب فيها إلا فتحة في جدار داخل بيت في أحد أبنية برزة.
رامي قفز في الهواء طامحاً في الخلاص، ليفارق الحياة لاحقاً في مستشفى تشرين العسكري، هو واحد من كثر آخرين كان أقصى ما يتمنونه هو القفز في الهواء، وهم اليوم يمشون في الشوارع بيننا يحلمون بأيام قادمة تنسيهم ما عانوه.