"ساعة الحائط"... أن ندخل الزمن ونغادره متى نشاء

11 فبراير 2025
من عرض الفيلم في متحف موما في نيويورك (لياو بان/ Getty)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- فيلم "ساعة الحائط" لكرستيان ماركلاي هو مونتاج سينمائي مدته 24 ساعة، يجمع مقاطع من أفلام ومسلسلات على مدار 100 عام، متزامناً مع الوقت الفعلي للمشاهد، مما يخلق تجربة فريدة تربط الزمن السينمائي بالزمن الحقيقي.
- يُعرض الفيلم في متحف موما بنيويورك، واكتسب شهرة عالمية منذ عرضه الأول في لندن 2010، وحاز على جائزة الأسد الذهبي في بينالي البندقية 2011، ويُعتبر تحفة فنية تعكس تعقيد علاقتنا بالزمن.
- ماركلاي، المولود في كاليفورنيا والمترعرع في سويسرا، بدأ مسيرته في المشهد الموسيقي التجريبي، ويعكس فيلمه فلسفته في استكشاف الزمن ودمج الماضي بالحاضر.

تخيل أنك تجلس في قاعة مظلمة، تشاهد مقاطع متتالية من أفلام قديمة وحديثة، وكل مشهد منها يحتوي على ساعة أو إشارة زمنية حقيقية، تتزامن تماماً مع الوقت الفعلي الذي تعيشه أثناء المشاهدة. إنها ليست مجرد مصادفة، بل نتيجة جهد استمر ثلاث سنوات، شاهد خلالها صناع هذا العمل وحلّلوا آلاف الأفلام لاستخراج كل لحظة زمنية ممكنة، وتجميعها في عمل فني متكامل يعكس مرور الزمن في الفيلم والواقع معاً.

فيلم "ساعة الحائط" (The Clock) مدته 24 ساعة، وهو مونتاج سينمائي ضخم يجمع آلاف المقاطع من أفلام ومسلسلات تلفزيونية عُرضت على مدار 100 عام، من كلاسيكيات السينما الصامتة إلى أحدث إنتاجات هوليوود. كل مشهد في العمل يُظهر ساعة حائط أو ساعة يد، أو إشارة إلى الوقت، مع مزامنة هذه اللحظات مع التوقيت المحلي الحقيقي للمشاهد. فإذا كانت الساعة في الواقع تشير إلى الواحدة ظهراً، فسترى على الشاشة جيمس بوند يتحقق من ساعته في تمام الواحدة، أو شخصية ما في فيلم من الخمسينيات تُعلق على موعد غداء في التوقيت ذاته.

هذا العمل الاستثنائي يُعرض حالياً في متحف موما (MoMA) في نيويورك حتى 11 مايو/ أيار المقبل، ويحتوي على أكثر من عشرة آلاف لقطة سينمائية، تشمل مشاهد أيقونية في تاريخ السينما الغربية. تجتمع كل هذه المشاهد وغيرها لتشكل معاً "ساعة سينمائية ضخمة"، إذ يدعو صانع العمل كرستيان ماركلاي الجمهور لمشاهدة الزمن وهو يمر، والشعور به والتأمل في معناه في حياتنا اليومية. يُقدم الفيلم سرداً زمنياً مُحكماً، فتتحول كل دقيقة إلى فصل من فصول حكاية إنسانية عن الانتظار والحب والفقد والقلق والموت.

تعود فكرة الفيلم إلى التسعينيات من القرن الماضي، حين بدأ ماركلاي في استكشاف فكرة التلاعب بالمونتاج والوقت. عام 1995، أنتج ماركلاي فيلماً قصيراً عنوانه Telephones، كان عبارة عن مونتاج لمشاهد من أفلام مختلفة تظهر فيها شخصيات تتحدث عبر الهاتف، ما صنع سرداً جديداً تماماً باستخدام اللقطات المأخوذة من سياقاتها الأصلية.

غير أن القفزة الحقيقية جاءت عندما انتقل ماركلاي إلى لندن عام 2007، حين بدأ بالبحث عن طريقة أكثر طموحاً لتقديم فكرة الزمن في السينما. بمساعدة فريق من المُتخصصين، بدأ ماركلاي بتحليل آلاف الأفلام، باحثاً عن كل مشهد يحتوي على ساعة أو توقيت معين، ليجمعها في فيلم يتواصل على مدار يوم.

فيلم "ساعة الحائط" يقدم تجربة سينمائية غير مسبوقة، إذ يتفاعل مع الزمن الفعلي على نحو مذهل. يمكننا الدخول في أي وقت والخروج منه متى نشاء، ونعود لاحقاً لرؤية مشاهد مختلفة تماماً. يتيح الفيلم لمشاهديه رحلة شيقة عبر تاريخ السينما، من أفلام الأبيض والأسود الكلاسيكية وصولاً إلى أفلام هوليوود الحديثة، فهو أشبه بأرشيف حيّ يعيد تشكيل وعينا البصري بالسينما.

منذ عرضه الأول في لندن عام 2010، اكتسب الفيلم شهرة عالمية، فعُرض في متاحف بارزة مثل متحف الفنون الجميلة في بوسطن، ومركز بومبيدو في باريس. وصفه النقاد بأنه أحد أهم الأعمال الفنية المعاصرة خلال العقد الأخير. فاز الفيلم بجائزة الأسد الذهبي في بينالي البندقية عام 2011، وهو أعلى تكريم في عالم الفنون البصرية. وقد وصفته اللجنة المنظمة بأنه "أول تحفة فنية من عصر يوتيوب".

وُلد ماركلاي في كاليفورنيا عام 1955، وترعرع في سويسرا قبل أن ينتقل إلى بوسطن ونيويورك في سبعينيات القرن الماضي، حيث انغمس في المشهد الموسيقي التجريبي. عمل في بداياته مُنسّق موسيقي (DJ) في نوادي البانك والروك. كان يجرب خلط الأصوات مع الصور، مُحطماً التقاليد الفنية التي تفصل بين السمعي والبصري. هذه الخلفية الموسيقية ظلت جوهرية في أعماله اللاحقة، بما فيها "ساعة الحائط".

يعكس العمل علاقتنا المعقدة بالزمن، ففي عصر البث المباشر والذكاء الاصطناعي، صار بإمكاننا "تجميد" اللحظة بمجرد لمسة شاشة. يذكرنا الفيلم بأن الزمن الحقيقي لا يُلتقط إلا بالعيش فيه. كل مشهد في المونتاج يستحضر ذكريات أفلام شكلت وعي أجيال، من "تايتانيك" إلى "جيمس بوند"، لكنها تفعل ذلك بطريقة تجعل الماضي والحاضر يتزامنان بدهشة. ماركلاي يلعب أيضاً مع مفارقة أساسية؛ على الرغم من أن العمل مصمم ليعكس الوقت الحقيقي، فإن مشاهدة كل الـ24 ساعة متتالية شبه مستحيلة. معظم الزوار يرون جزءاً من اليوم فقط، ما يجعل "ساعة الحائط" عملاً فنياً يتغير بتغير زواره، وكأن كل مشاهد يخلق نسخته الخاصة منه.

"ساعة الحائط" تأمل فلسفي في مفهوم الزمن نفسه: هشاشته وجبروته وقدرته على ربط الذكريات بالحاضر. هنا، تذوب الحدود بين الماضي والحاضر، وبين الخيال والواقع، لتصير السينما مرآة تعكس علاقتنا الأبدية مع اللحظة العابرة. وبينما نقف أمام هذا السرد السينمائي المتدفق، نُدرك ما قصده المخرج الروسي أندريه تاركوفسكي حين قال إن "السينما هي نحت في الزمن"، فالزمن هنا ليس مجرد خلفية للأحداث، بل هو المادة الخام التي يُشكَّل منها العمل نفسه.

المساهمون