استمع إلى الملخص
- يستخدم الفيلم رمزية الساحرات لفهم تاريخ قمع النساء، مشيراً إلى اضطهاد النساء المستقلات فكرياً وربط ذلك بالوصم الاجتماعي للأمهات اليوم.
- يفتح الفيلم حواراً حول الضغوط النفسية والاجتماعية على الأمهات، مؤكداً على أهمية الدعم والاعتراف بمشاعرهن، ويبرز قوة النساء في التعافي من خلال شبكات الدعم.
شريرات أو حكيمات، ظل تمثيل الساحرات في السينما جزءاً من الصورة النمطية للنساء المتمردات على الأعراف الاجتماعية. تستلهم المخرجة البريطانية إليزابيث سانكي هذه الرمزية، لكنها تعيد توظيفها من منظور شخصي، مستندة إلى تجربتها مع العزلة، والقلق، والذهان الذي أصابها بعد إنجاب طفلها الأول.
في فيلمها الوثائقي "ساحرات" Witches الصادر العام الماضي، تروي سانكي بشجاعة معاناتها مع اكتئاب ما بعد الولادة، كاشفة عن مشاعر يخشى كثير من الأمهات الإفصاح عنها. "ساحرات" هو بوح شخصي في المقام الأول، وتعبير عن الأصوات التي تتردد في ذهن سانكي، والمشاعر المتضاربة التي ظلت مكبوتة داخلها منذ الحمل.
آنذاك، شعرت بعدم القدرة على تحمل هذه المرحلة، رغم علمها بأنها مؤقتة، وراودتها رغبة ملحة في ولادة طفلها سريعاً. لكنها بعد الولادة، بدأت تفقد السيطرة على حياتها، وحاصرتها أفكار مظلمة، وصلت حد التفكير في إيذاء نفسها وطفلها. تفاقمت معاناتها عندما لجأت إلى طلب المساعدة الطبية، فلم تجد من يتفهّم حالتها، بل قوبلت بردات فعل لا مبالية، ترى أن "الأمومة هكذا"، وعليها التكيّف. شعرت سانكي وكأنها عالقة في فيلم رعب، وتحول منزلها إلى سجن تحلم بالهروب منه.
تنسج سانكي حكايتها مستندة إلى مقاطع من أفلام تناولت عوالم السحر والأساطير، مثل The Witches of Eastwick وThe Witch وThe Wizard of Oz، لتربط تجربتها الشخصية بما تمثله الساحرات في الثقافة الشعبية. في هذه الأفلام، غالباً ما تُصوَّر الساحرات كنساء يتمرّدن على التوقعات المجتمعية، ويتجاوزن الأدوار المفروضة عليهن. السلطة الذكورية هنا تظهر بوضوح: إما أن تكوني الأميرة المثالية، أو الساحرة الشريرة. تأخذ سانكي هذه السردية وتقارنها بالمتطلبات غير الواقعية المفروضة على الأمهات، في مجتمع يعتبر الأمومة قمة الإنجاز الأنثوي، وغالباً ما يُنظر إلى المرأة التي تفشل في تلبية هذه المتطلبات على أنها شخصية سيئة وأنانية، وحتى "مجنونة".
تعيد سانكي تحليل الصورة السينمائية للساحرات، ليس فقط بوصفها انعكاساً لحكايات ومرويات شعبية، بل بوصفها أداة لفهم تاريخ قمع النساء. منذ العصور الوسطى، تعرضت النساء اللواتي امتلكن معرفة طبية أو استقلالية فكرية للاضطهاد بتهمة الشعوذة، وأُحرقت الآلاف منهن، وعُلّقن على أعواد المشانق بتهمة ممارسة السحر. وعلى الرغم من أن وسائل القمع قد تغيرت، فإن السلطة الأبوية لا تزال قائمة، ولكن بأشكال أعقد.
يسلّط الفيلم الضوء على أوجه التشابه بين الترهيب الذي طاول النساء في الماضي، وبين الوصم الاجتماعي الذي يطاول الأمهات اللواتي يعانين من اكتئاب ما بعد الولادة في الوقت الحاضر. ما زالت أشكال الإقصاء قائمة، لكنها اتخذت طابعاً أكثر حداثة. في هذا السياق، يبرز الفيلم أهمية التضامن الأنثوي، مسلطاً الضوء على شبكة الدعم التي تنشأ بين الأمهات اللواتي مررن بالتجربة ذاتها. من خلال المقابلات مع النساء اللواتي شاركن سانكي جناح الأمراض النفسية في المستشفى الذي تلقت العلاج فيه، نكتشف السمة المشتركة بينهن: الشعور العميق بالوحدة. على الرغم من أنهن كن في علاقات ولديهن عائلات وشبكات اجتماعية، فإنهن افتقدن المساحة اللازمة للتعبير عن أفكارهن؛ أفكار تتطلب قدراً كبيراً من الشجاعة للإفصاح عنها.
رغم الاعتراف الاجتماعي باكتئاب ما بعد الولادة، فإن هذا الاعتراف لا يُترجم إلى فهم أو استجابة فعالة؛ إذ تجد الأمهات أنفسهن في مواجهة استهانة طبية بمشاعرهن، ومجتمع يستخف بمعاناتهن، ما يفاقم من إحساسهن بالعزلة، فالأم التي تخشى الفشل، والمرأة التي تخاف أن تُعتبر "ساحرة شريرة"، كلتاهما تخوضان رحلة مؤلمة نحو التصالح مع الذات. وسط هذا التهميش، تؤكد سانكي أن النجاة لا تتحقق بالانغلاق على الذات، بل من خلال البحث عن دوائر دعم صغيرة تتبادل فيها الأمهات التجارب والمساندة.
لا تكتفي إليزابيث سانكي بسرد قصتها الشخصية، أو قصص النساء الأخريات اللواتي مررن بالمعاناة ذاتها، بل تفتح المجال لحوار أوسع حول قضايا الشعور بالذنب والعار، والضغوط التي تواجهها النساء، خاصة عندما يصبحن أمهات. من خلال تركيزها على إمكانيات الشفاء، تؤكد سانكي أن النساء لا يختزلن بمعاناتهن فقط، بل بقوتهن وقدرتهن على النهوض مجدداً.
"ساحرات" فيلم حميمي وصريح للغاية. مساحة لإعادة التفكير في موضوع الصحة النفسية بعد الولادة، وللاعتراف بمشاعر مسكوت عنها لا تزال تقابل بالتجاهل والرفض، مع التأكيد على أهمية الروابط التي نبنيها، بينما يحكم العالم من حولنا على من يحتاجون إلى المساعدة ويدينونهم.