زمن الجائحة وأولئك الأصدقاء الذين اختفوا في منازلهم

زمن الجائحة وأولئك الأصدقاء الذين اختفوا في منازلهم

05 مارس 2021
غابت الفضاءات التي كانت تجمعنا بأصدقائنا بسبب الحجر الصحي (Getty)
+ الخط -

 

تخبرنا أماندا مول، الصحافية في "ذي أتلانتيك"، ضمن مقال لها، عن الأصدقاء الذين خسرناهم في زمن الجائحة، وتناقش فيه علاقتنا مع الفضاء العام، ومن فيه من أشخاص، سواء كنا نعرفهم أو لا نعرفهم، وأثر ذلك علينا. وتقدم لنا في اللغة الإنكليزيّة مصطلح weak ties، الذي تستعيره من السوسيولوجيا، ويعني أولئك الأشخاص الهامشيين في حياتنا والذين نصادفهم دوماً من دون أن نعرفهم.

يقودنا الفضول عند قراءة هذا المقال إلى اللغة العربيّة، والألفاظ الدقيقة لكل نوع من أنواع الأصدقاء، الذين تَهدّد وجودهم واستمرارية تواصلنا معهم ضمن الحجر الصحي، سواء بسبب التباعد المكاني، أو بسبب غياب الفضاء الذي كان يجمعنا معهم، كالأتراب، الذين يماثلوننا في السن، والذين أصبح الاجتماع جسدياً ومشاركة الآمال والتصورات ذاتها معهم صعباً بسبب إغلاق الجامعات والمدارس، واعتماد التعليم عن بعد.

هذه الفضاءات تصنف الأتراب والمتشابهين في المكان ذاته، ليشكلوا لاحقاً جيلاً واحداً، لا فقط بسبب ارتياد الفضاءات ذاتها، بل أيضاً بسبب أوقات اللهو والمرح المشتركة. الأمر ذاته ينسحب على الزملاء، الذين تحولوا إلى أيقونات على شاشات الحواسيب في اجتماعات "زوم"، وازداد بعضهم بعداً عناً إلى حد تحولهم إلى غرباء، كون الكثيرين منهم لا نلتقيهم خارج أوقات العمل، فهم أشبه بجزء من الماكينة التي نعمل ضمنها، واختفاؤهم جعلنا أكثر "وحدة" في سياقات الإنتاج، وأكثر ابتعاداً عن التواصل البشري.

زداد الأمر فداحة حين تصغر الدائرة، فالجليس والنديم والسمير أيضاً عرضة للتهديد... أولئك الذين يحدثوننا ليلا ويصحبوننا في أوقات المرح، إذ تحولوا إما إلى شاشات نحادثها و"نسهر" معها، أو نقُص عدد اللقاءات معها

يزداد الأمر فداحة حين تصغر الدائرة، فالجليس والنديم والسمير أيضاً عرضة للتهديد... أولئك الذين يحدثوننا ليلا ويصحبوننا في أوقات المرح، إذ تحولوا إما إلى شاشات نحادثها و"نسهر" معها، أو نقُص عدد اللقاءات معها، وأصبح اللقاء مقتصراً على الداخل والأماكن المغلقة.

وهنا تظهر فئة الرفيق، التي تعني من يصاحبنا في السفر؛ فمع إغلاق الحدود وتعطل الأعمال، تلاشت فئة الرفيق، التي تحوي عادة نوعاً أدبياً كاملاً؛ إذ نقرأ حكايات بل، ونمتلك حكايات عن أِشخاص صادقناهم في أسفارنا فقط، ثم اختفوا من حياتنا لاحقاً، كما حدث في رواية "حول العالم في ثمانين يوماً"، قصة الصديقين باسبارتو وفيلياس فوغ اللذين التقيا مصادفة، وقاما معاً بمغامرة لا تنسى.

لم يؤثر الوباء بشدة على "الخليل"، ذاك الصديق الذي نحبه والذي نصطفيه من الناس، فالأخلاء هم الأقرب للنفس، والتواصل معهم يتجاوز الآداب العامة وضرورات اللقاء الشخصيّ، نحو علاقة روحية من نوع ما.

لكن الأمر يختلف مع "الأنيس"، ذاك الذي نفرح لوجوده ولو لم يكن صديقاً. هو واحد من أولئك الذين نراهم أحياناً في الحفلات، أو الاجتماعات العامة، والذين يضفون طابعاً ساحراً على المجموعة. بالطبع الأنيس اختفى، فلا حفلات ولا أماكن للتجمع.

الأكثر تأثراً بالجائحة هو "النجي"، ذاك الذي نسرّ له بأشيائنا ونحادثه ليلاً، والذي يتحول في بعض الأحيان إلى بديل عن الطبيب النفسيّ مع ازدياد الضغوط التي يسببها الوباء.

الأمر ذاته مع الحبيب الذي تحول إلى قرين ورفيق دائم طوال فترة الوجود في المنزل، لكن طول فترة الملازمة بسبب الحجر هدد هذه المكانة، كون الفرد فقد القدرة على الوجود وحده لفترة طويلة، مسافة "الأنا" بعيداً عن أي آخر تتلاشى في حال الشراكة في السكن ذاته، ما هدد كل العلاقة مع الآخر وجدوى الوجود معه.

لم يؤثر الوباء بشدة على "الخليل"، ذاك الصديق الذي نحبه والذي نصطفيه من الناس، فالأخلاء هم الأقرب للنفس، والتواصل معهم يتجاوز الآداب العامة وضرورات اللقاء الشخصيّ، نحو علاقة روحية من نوع ما

هذه الفئات تتنوع إن أمعنا التفكير أكثر، فهناك الذين نصادفهم يومياً في مواقف السيارات والمواصلات، أولئك الذين نتشارك معهم إيقاع العمل، والذين اختفوا الآن في منازلهم، وأيضاً هناك رواد المقهى ذاته الذي نرتاده، حتى أولئك الذين نعجب بهم من بعيد ويدللون مخيلتنا يومياً بسبب تقاطع الأوقات والأماكن، أصبحوا في طي النسيان. هذه الوجوه التي لا نعرف أصحابها ولا حكاياتهم، تشكل جزءاً من ذاكرتنا عن الأماكن، هي أوجه معتادة تختلط علينا أحيانا وتتشابه، لكنها تخلق لديناً أيضاً حساً بالأمن والاستقرار والانتماء إلى جماعة بشريّة، حتى لو لم نعرف من أفرادها أحداً.

المساهمون