"روح الكيفلار" للسويدية هِتش: الواقع يتغيَّر والسينما تعاينه
استمع إلى الملخص
- فيلم "روح الكيفلار" يعكس الواقع السويدي من خلال قصة ألكس، الذي يواجه تحديات عائلية واجتماعية، ويبرز هشاشة الشخصيات وتأثيرها على المجتمع، مع تسليط الضوء على الفوارق الاقتصادية والاجتماعية.
- يُعتبر الفيلم مهماً من حيث الجماليات والمعالجة الدرامية، ويقدم رؤية متفائلة رغم سوداوية الأحداث، مما أهله لجائزة أفضل فيلم روائي طويل في مهرجان زلن.
تميل السينما السويدية، والاسكندنافية عامة، إلى بحث حالة الكائن البشري من منظور وجودي وفلسفي. هذا يفسّر سبب معاينتها الدائمة جوّانيات أبطالها، واعتبار الخارج هامشاً وفضاء عاماً، يتحرّكون وسطه، من دون كثير اهتمام بالحاصل فيه من تحوّلات دراماتيكية.
هذا الاتجاه مُتأتٍ أساساً من نظرة فلسفية، تضع الكائن في بؤرة الكون، وتُهمِّش العام. على المستوى النفسي، تتأثّر الكتابات السينمائية الشمالية بالمناخات المنعزلة، المُتآلفة مع فردانيّتها. الابتعاد عن هذا الاتجاه مسافة بدأ مع جيل جديد من السينمائيين الاسكندنافيين، خاصة المهاجرين بينهم، الذين يقاربون الواقع الذي يعيشونه، ويُركّزون في أفلامهم على العوامل الخارجية المؤثّرة فيه، كالعنصرية والأحكام المسبقة والتمييز.
المخرجة ماريا إيركسون هِتش، في روائيّها الطويل الأول "روح الكيفلار" (2025)، تعاين بنظرة فاحصة الواقع السويدي اليوم بمكوّنه الأساسي. تُقدّمه بمحمولاته الاجتماعية والاقتصادية، كأنّها توثّقه كما هو درامياً، من دون الوقوع في فخّ الواقعية الشكلانية المُسطّحة.
"روح الكيفلار" (كلمة "كيفلار" مستوحاة من ألياف صناعية خاصة، تدخل في صناعة منتجات صلدة وقوية، كواقيات الرصاص) استعارة وصفية لا تؤشّر على صلابة روح بطله الفتى ألكس (جوزيف كيرش)، بل على قوّة مقاومتها، وحفاظها على ما يمنع كسرها وتحطّمها. اختيار هِتش المُراهَقة وتقلّباتها العنيفة لا يخلو من مغامرة، لأنّ عدداً غير قليل من المخرجين قبلها تناولوا الثيمة نفسها، وعليها لتبرير اختيارها أنْ تُقدّم مُعالجة واشتغالاً سينمائيين مختلفين بعض الشيء عنها.
يهتمّ النصّ (السيناريو والقصة لبيله رودستروم) بهشاشة دواخل شخصياته، لا ببطولاتهم. هشاشة تتعدّى الفرد إلى العام. فحين يصبح الجميع عرضة للانكسار، يغدو المشهد الاجتماعي العام، الذي يتحرّكون فيه، عرضةً للتضعضع أيضاً. هذا ربما يحصل في السويد وفق رؤية صانعة الفيلم.
مشاكل ألكس وهمومه متأتية جلّها من مشاكل أخيه الأصغر، المُراهق روبين (ريو سفينسون) ووالده (توركل بيترسون)، المُدمن على الكحول، والعنيف في تعامله معهما. يُكرّس ألكس كلّ اهتمامه لمعالجة تصرّفات أخيه وسلوكه، المتجاوز كلّ حدود. تصرّفاته وعنفه محاولة لتبديد توتّر داخلي عنيف نابع من سوء علاقته بوالده، والغياب المُبهم لوالدته. تُحيل تصرّفاته الهوجاء حياة أخيه الأكبر إلى عذاب وخوف دائمين.
في مفارقة حياتية، يتعرّف روبين على الصبية أينيس (أديا سيس ستينسون). من دون اهتمام جدّي به، تنتقل بعلاقتها إلى ألكس. فعلٌ يترك أثراً موجعاً في نَفْس الأخ الأصغر، من دون إدراك من الأكبر لفداحة فعل الهجر. يدفع انشغال ألكس بعلاقته الجديدة إلى ذهاب أخيه بعيداً في علاقته بزعيم مجموعة من شبّان المنطقة السكنية السويدية، لا يتوانون عن ارتكاب الجرائم.
من العلاقات الناشئة بين شخصيات قلقة وهشّة الدواخل، تُكوِّن هِتش صورة جديدة لمجتمعها، وهذا تميّزها الأهمّ عن مخرجين آخرين، أكثرهم تناول مرحلة المُراهقة بأسلوب سينمائي غلب عليه الإثارة والمغامرة، بينما هي تقاربها بأسلوب آخر، يجمع بين الإثارة والديناميكية والتأمّل في الحاصل من تحوّلات مجتمعية، متلازمة مع فوارق اقتصادية تميّز بين الأفراد والطبقات.
هذا تكشف عنه علاقة الصبية الثرية أينيس بوالديها وبألكس. حياتها المترفة، وتبديدها المال من دون حساب، يقابله فقر وعوز عنده. حرصه على أخيه يقابله كراهيتها لوالديها، المنتميَيْن إلى مراتب عليا في الطبقة المتوسّطة الأوروبية، والمتبنيَيْن إياها رضيعة من البرازيل، من دون كثير اهتمام بمشاغلها واحتياجاتها العاطفية. وحدتها وانشغال والديها عنها يزيدان من رغبتها في الانتقام منهما، وتجريب فعل كلّ ما يُغيظهما.
في مسار الأحداث، هناك حصيلة مذهلة في جماليتها وعمقها عن حالة الاستسلام واللاإدراك للمخاطر عند المُراهق التائه. يبدو النص السينمائي كأنّه يتفهّمها، أو أقلّه يُدرك منابعها في دواخل المُراهقين المندفعين لفعل الانتقام، وإثارة كل ما يشير إلى رغبتهم في الاعتراض، وطريقتهم في مواجهة سوء معاملة المحيطين بهم. لمقاربة الواقع، كما تشي رغبة صانعته، توصّل مسار تطوّر حكاية فيلمها إلى نقطة دراماتيكية، يقترب فيها روبين من رئيس المجموعة مايك (فيليب توريس أورنينغ)، ويستجيب لفكرة مرافقته لحضور حفل خاص بشبان من المنطقة. لمعرفتهم به وبسلوكه الإجرامي، يمنعه أصحاب الحفل من الدخول. للانتقام منهم، يسكب بقايا قنينة كحول على أغراض مُكوّمة أسفل القاعة. يطلب من روبين إشعال النار فيها. من دون تفكير، وباستسلام كأنّ قوى خفية تُجبره على الانصياع، ينفّذ ما يُطلَب منه. يموت عدد غير قليل من المحتفلين حرقاً، ويصاب آخرون، بينهم أخوه الأكبر، بحروق بليغة.
الحدث الدرامي المُتخيل يقارب حادثة مشابهة لها في الواقع، حصلت في المدينة السويدية غوتنبرغ عام 1988، راح ضحيتها أكثر من 60 شاباً. درامياً، فعل الندم عند روبين يأتي متأخراً، ترافقه تحوّلات في العلاقات بين الشخصيات الرئيسية، توحي بوجود بقعة ضوء في نهاية نفق العنف والتمزّق الأسري المؤلم. من دونها، يصبح نصّ "روح الكيفلار" سوداوياً متشائماً، ولأنّه يقارب عالم المُراهقة وتعقيداته، تصير فسحة الأمل فيه لازمة لاستمرار ما يتبقّى من حياة.
هذا يجعله فيلماً مُهمّاً على مستوى الاشتغال الجمالي والمعالجة الدرامية، التي استحق عليها جائزة أفضل فيلم روائي طويل بمسابقة فئة الشباب، في الدورة 65 (29 مايو/أيار ـ 4 يونيو/حزيران 2025) لـ"مهرجان زلن لأفلام الأطفال والشباب" (جمهورية التشيك).