رسومات فيكتور هوغو في لندن: تحويل المنفى إلى عالم سحري

13 يونيو 2025   |  آخر تحديث: 10:12 (توقيت القدس)
من معرض "أشياء مدهشة: رسومات فيكتور هوغو" (زينب دمير أسليم/ الأناضول)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- يبرز معرض "أشياء مدهشة: رسومات فيكتور هوغو" الجانب الفني غير المعروف للأديب الفرنسي، حيث يعرض 70 عملاً فنياً نادراً تتنوع بين الرسومات السريعة والتجارب التجريدية، مما يعكس إبداعه البصري.
- خلال منفاه في جزيرة غيرنزي، أنتج هوغو رسومات تعبر عن مشاعره تجاه العزلة والظلم، مثل لوحة "هذا هو القانون"، مما يجعلها يوميات مرئية تتجاوز القواعد الأكاديمية.
- تتميز رسومات هوغو بتنوعها الشكلي والتقني، واستخدامه لمواد بسيطة لخلق تأثيرات درامية، مما يعكس شغفه بالعمارة ورؤيته الأدبية والإنسانية.

عندما يُذكر اسم فيكتور هوغو تتبادر إلى الذهن على الفور روائعه الأدبية، مثل "البؤساء" و"أحدب نوتردام"، أو ربما صورته بوصفه رمزاً للنضال السياسي من أجل العدالة والحرية. لكن قلة تعرف أنه كان يمسك بالقلم ليرسم كما كان يمسكه ليكتب، مُبدعاً عوالم من الظلال والأحلام التي قد تُثير الدهشة ذاتها التي تُثيرها شخصياته الأدبية. هذا الجانب المغمور من حياة هوغو هو ما يُسلط عليه الضوء الآن في معرض "أشياء مدهشة: رسومات فيكتور هوغو" Astonishing Things: The Drawings of Victor Hugo الذي تستضيفه الأكاديمية الملكية للفنون في لندن حتى 29 يونيو/حزيران المُقبل. المعرض الأول من نوعه في بريطانيا، يكشف عن 70 عملاً فنياً نادراً، تراوح بين الرسومات السريعة والتجارب التجريدية الغامضة، مروراً بتخطيطات للقلاع القوطية التي تذكرنا بأجواء رواياته الشهيرة.

وُلد فيكتور هوغو (1802 - 1885) في عصر كانت فيه فرنسا تتأرجح بين الثورات والاستبداد، وكان هو نفسه شاهداً على تحولاتها الجذرية. لكن المنفى الذي فرضه على نفسه في جزيرة غيرنزي بعد انقلاب نابليون الثالث عام 1851، لم يكن مجرد عزلة سياسية، بل كان أيضاً مساحةً للإبداع البصري. هناك، بعيداً عن صخب باريس، تحول منزله إلى ملاذ قوطي، زينه بلوحات ومرايا رسم عليها طيوراً ملونة، كما لو كان يسعى لتحويل المنفى إلى عالم سحري. في تلك الفترة، أنتج هوغو بعضاً من أعمق رسوماته؛ بين هذه الرسومات تبرز لوحة بعنوان "هذا هو القانون" التي تصور جثةً مُعلقةً، وقد رسمها احتجاجاً على عقوبة الإعدام. وفي لوحة أخرى بعنوان "الرصيف"، يُجسد طريقاً صخرياً قاحلاً، ربما عكس مشاعر العزلة التي كان يشعر بها في منفاه. كانت هذه الأعمال بمثابة يوميات مرئية، لا تتبع قواعد الفن الأكاديمي، بل تتحرر كما تحرّرت كتاباته من القيود.

ما يُميّز رسومات هوغو، تنوعها الشكلي والتقني، فبينما يبدو بعضها خربشات عابرة أو ما كان يسميها هو نفسه بقعاً لونية، نراه في لوحات أخرى يصور عوالم سوريالية غارقة في الخيال. في إحدى هذه اللوحات، نرى نباتاً عملاقاً يشبه كائناً بشرياً. وفي لوحته "القلعة الطافية" تذكرنا خطوطه القاتمة والمتشابكة بأجواء كافكا. لكن الأكثر إثارة هنا، هو الكيفية التي وظف بها فيكتور هوغو مواد بسيطة مثل الحبر والفحم والغواش لخلق تأثيرات درامية على مساحات صغيرة للغاية. في لوحته "المنتزه المهجور"، التي لا يتجاوز حجمها 4.4 سم، يستحضر هوغو غابةً شبحية تنعكس على بحيرة صغيرة، بينما في رسمته "منارة غيرنزي"، يبني عالماً ضخماً من الأمل عبر درج حلزوني هش يُؤدي إلى نور سحري.

يطرح المعرض تساؤلات عميقة عن الطبيعة الفريدة لرسومات فيكتور هوغو التي تميزت بحسّ سوريالي مدهش، سبق به حركة السوريالية بقرن. وصف فان غوخ هذه الأعمال بالمدهشة، بينما يرى النقاد اليوم أن بعض تجاربه التجريدية تسبق بأشواط أعمال فرانسيس بيكون في القرن العشرين. لكن المفارقة تكمن في أن هوغو نفسه لم يكن منشغلاً بالأطر الفنية السائدة في عصره. فبينما كان الانطباعيون يقلبون موازين الفن الأكاديمي، ظل هو يسبح في تيارات خياله الخاص، متحرراً من القيود. هذا التحرر المطلق، وهذا الإصرار على اتباع الرؤية الداخلية من دون التفات إلى الاتجاهات الفنية السائدة، ما يجعل أعماله تبدو اليوم حديثة وعابرة للزمن، وكأنها من إبداع فنان معاصر.

تُجسّد هذه الرسومات التي أبدعها فيكتور هوغو شغفه العميق بالعمارة وتصويره للقلاع والمباني التاريخية كائناتٍ أسطورية تراوح بين الحلم والكابوس. لكن هذا الشغف لم يكن مجرد انبهار جمالي بالتفاصيل المعمارية، بل كان لغة بصرية يعبّر من خلالها عن صراعه الأزلي مع السلطة والقمع. من ناحية أخرى، تبدو هذه الرسومات أيضاً كامتداد بصري لرؤيته الأدبية والفكرية، فكما كتب عن القهر والمقاومة في البؤساء، رسم القلاع ليست بوصفها معالم معمارية فحسب، بل وحوشاً حجرية ترمز إلى القمع والهيمنة.

يكشف لنا هذا المعرض كيف أن فيكتور هوغو لم يكن مجرد روائي موهوب أمسك بالفرشاة في أوقات الفراغ، بل كان فناناً شاملاً وإنساناً جسّدت حياته وأعماله بحثاً لا يكل عن الحرية. سواء عبر كلماته التي منحت صوتاً للمهمشين، أو خطوطه التي احتضنت آلام المعذبين، ظل هوغو شاهداً على عصره وفناناً يتجاوز زمانه، يذكرنا بأن الفن هو دائماً رسالة إنسانية قبل أن يكون مجرد جماليات شكلية.

المساهمون