رسالتان لميشيل تيان: ألمٌ واحد في اشتغالين جميلين

26 مارس 2025
ميشيل تيان: أنْ تروي الكاميرا رسالة ذاتية قاسية (الملف الصحافي)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- فيلم "رسالة #5" لميشيل تيان يعكس مشاعرها تجاه الحرب الإسرائيلية على غزة، من خلال حكاية سليم مراد الذي يتذكر والده وعيد ميلاده الـ36، مما يثير تأملات حول العائلة والذكريات.
- الرسالة الموجهة لوالدة تيان مليئة بالتناقضات وتعبر عن وجعها الشخصي، مستندة إلى اقتباسات من آني إرنو وبول نيزان، مما يعكس عمق التجارب الشخصية.
- الفيلم جزء من مشروع يضم 18 مخرجاً لبنانياً، يُعرض في "شاشات الواقع" ببيروت، ويمزج بين الشخصي والعام ليعكس تعقيدات الواقع والذاكرة.

 

في رسالته إليها، التي تقرأها في شريطٍ صوتي يترافق ولقطات موزّعة بين ليل ومطر ونهار و"هدم جدار" (من أعمال لوميير، 1896)، يروي سليم مراد حكاية شخصية، تُسقطها ميشيل تيان، في فيلمها القصير "رسالة #5" (2024، 9 دقائق و50 ثانية)، على راهن فلسطيني، وعلى شعور شخصي لها إزاء الحاصل في غزة، زمن حرب الإبادة الإسرائيلية الأخيرة. يحتفل بعيد ميلاده الـ36، فيتذكّر أنّ والده، العامل في مركز البريد عام 1967، ببلوغه هذا العمر نفسه، يتزوّج ويؤسّس عائلة.

أمّا رسالتها إلى والدتها، التي تقرأها تيان نفسها، فمليئة بمشاهد يتداخل فيها الخارج بالداخل، والنهار بالليل، والمطر بصفاء طقسٍ، يتناقض (الصفاء) مع داخل/ذاتٍ يُعانيان وجعاً وتمزّقاً، ترويهما المخرجة بنبرةٍ شفّافة، ذات إيقاع هادئ، غير خاليةٍ من مسحة حزن تُعمِّق معنى الوجع وقسوة التمزّق. والرسالة هذه، التي تبدأ بفقرة للفرنسية آني إرنو وبأخرى للفرنسي أيضاً بول نيزان، جولةٌ في روحٍ وغرفةٍ وحياة وانقلابات تشهدها مدينة في وقتٍ غير مديد، دافعة (الانقلابات) المدينة وناسها إلى اختبار حادٍّ لهذين الوجع والتمزّق أيضاً.

فقرة إرنو، التي تفتتح "هي" (2025، 16 دقيقة و45 ثانية)، تبلغ عمق حالة وشعور في ذات امرأة، فتعكس حالة ميشيل تيان وشعورها إزاء أمٍّ تستعدّ للمغادرة: "تضع البودرة على وجهها أمام المرآة التي فوق المغسلة، وتضع أحمر الشفاه بدءاً من القلب الصغير في الوسط، ثم ترشّ بضع قطرات من العطر خلف أذنيها... لم يفتني شيءٌ من جسدها. كنتُ أظنّ أنّي، عندما أكبر، سأكون هي". هذا يسبق سرداً تقوله تيان بهدوءِ متأمّلةٍ، تبغي فهم الحاصل عبر الكلمات، وعبر الانفعالات، وعبر عيشٍ في قلب تلك الانقلابات، إنْ تكن الانقلابات خاصة جداً، أو عامة.

 

 

اختيار الفقرة الثانية نوعٌ من رسالةٍ في قلب الرسالة/الفيلم، توجّهها تيان إلى نفسها: "علينا أنْ نكون بمنتهى النقاء، أو بمنتهى الشجاعة، كي لا نُطالب الأشياء بأنْ تدوم...". خلاصة نصّ بصري مؤلم وقاسٍ، تقول شيئاً من ذاتٍ وروح.

"رسالة #5" إحدى "رسائل" (فيلم جماعي) مكتوبة بصُور وتعليقات ومشاعر وبوح، في أفلامٍ قصيرة عدّة، نواتها الأساسية واحدة: "أواخر عام 2023، خلال الحرب على غزّة، اجتمع 18 مُخرجاً لبنانياً للتعبير عن مشاعرهم عبر رسائل تبادلوها وحوّلوها إلى أفلامٍ قصيرة. اكتمل العمل عليها أواخر مايو/أيار 2024، من دون إدراكهم أنّ العدوان الشامل يتّجه نحوهم، ليصبح لبنان الهدف التالي للدمار". في الفيلم الجماعي هذا، المعروض لأول مرة في الدورة الـ19 (10 ـ 21 يناير/كانون الثاني 2025) لـ"شاشات الواقع" في "متروبوليس بيروت"، تُنجز تيان "رسالة من...... سليم مراد"، مُشيرةً إلى تاريخٍ (12 ديسمبر/كانون الأول 2023)، غير واضح إنْ يكن تاريخ الكتابة أو تاريخ الإرسال أو تاريخ الاستلام. التباس كهذا، رغم إمكانية اعتباره هامشياً، يصبح مدخلاً إلى ذات تيان، التي تقرأ رسالة مراد، فيتداخل عالمها بواقع أو متخيّل، فشخصية "كاتب الرسالة" غير ظاهرة، وغير مؤكّد وجودها (!). هذا أيضاً احتيال سينمائي مُحبَّب.

في "هي"، تواريخ كثيرة تُكتب في أمكنة مختلفة من الشاشة، فيتداخل الشخصيّ البحت بالعام المفتوح على خرابٍ يحلّ بمدينةٍ، تعاني انهياراتٍ شتّى. تواريخ "هي" تبدأ عام 2016 (30 ديسمبر/كانون الأول، أي بعد 18 يوماً على التاريخ المذكور في رسالة سليم مراد، لكنْ قبل سبعة أعوام). ذكر التواريخ غير عابر، مع أنّ عدم معرفة الحاصل في كلّ منها غير مهمّ، درامياً وفنّياً وحكائياً، فالأهمّ أنّ استخدام الأرقام أساسيّ في البنية السينمائية للفيلمين (يُذكر في ختام "هي" أنّه "فيديو") وتحديد 1967، في رسالة مراد، تذكيرٌ بهزيمة أخرى في حربٍ غير متكافئة: "كان يستلم الرسائل من غزة والضفة الغربية"، يقول سليم عن والده، مُضيفاً التالي: "ثم حصلت 67، وتوقّفت الرسائل".

في تلك الرسالة نفسها، يذكر مراد احتفالَه بعيد ميلاده الـ36 عاماً، فتكتشف تيان أنّ نتيجة جمعَ الرقمين هذين، أحدهما بالآخر، 9: "يقولون إنّ 9 عمر انتهاء دائرة". أي دائرة؟ وأي عمر؟ وأي حياة؟ أتكون الأرقام مفاصل في مسارٍ وعيشٍ، أمْ لحظة تأمّل؟

كلّ الأسئلة مُباحة. ومُشاهدة "رسالة من...... سليم مراد" و"هي" دافعٌ إلى طرح/إعادة طرح الأسئلة كلّها.

المساهمون