رحيل محمود ياسين... قراءة تبتعد عن لحظة الغياب

رحيل محمود ياسين... قراءة تبتعد عن لحظة الغياب

14 أكتوبر 2020
رحيل محمود ياسين دافعٌ إلى التفنّن بخطاب تمجيدي (عمرو أحمد/فرانس برس)
+ الخط -

بُعيد شيوع نبأ رحيل الممثل المصري محمود ياسين، اليوم الأربعاء، بوقتٍ قليل، يُكتب في رثائه تمجيد يتغاضى كلّياً عن أي شائبة تُصيب أداءً واشتغالات وأدواراً وأفلاماً.

رحيل محمود ياسين (1941 ـ 2020) دافعٌ إلى التفنّن بخطاب تمجيدي، يُلغي كلّ إمكانية لقولٍ سجاليّ وإنْ في لحظةِ حزنٍ، وكلّ رغبة في نقاشٍ سينمائي وإنْ في مناخٍ تُظلِّله رهبة الموت. لا ينفي هذا حضوراً لممثلٍ مُعاصرٍ لمسارٍ، حياتي وثقافي وفني واجتماعي وسياسي واقتصادي، في صناعة سينما، وفي كتابة تاريخ هاتين الصناعة والسينما معاً.

حضورٌ يمتدّ على سنين مديدة من التنقّل بين استديوهات ومسارح ومحطّات تلفزيونية وإذاعية، فهذا جزءٌ أساسيّ من سِيَر ممثلين وممثلات مصريين، يوزّعون يومياتهم على المجالات الفنية كلّها، كمن يرغب في مكانةٍ كبيرة، يظنّون أنْ تنويع المجالات قادرٌ على تثبيتها.

للتحليل النقديّ دوره في قولٍ يخرج على الندب والبكائيات، لتبيان مكامن الحِرفية والتجديد المتكامل معها، ولكشف تكرارٍ أو ثباتٍ في المهنة، وهذان التكرار والثبات، المؤدّيان إلى روتين بصري مُملّ، يُصيبان المهنة بمقتلٍ، فيتحوّل الممثل أو الممثلة حينها إلى آلةٍ تُتقن أداءً، لكنّها تعجز عن تغيير أو تجديد أو ابتكار. وإذْ يميل بعض النقد أحياناً إلى قراءة الممثلين والممثلات بمفردات النجومية والجمال والوسامة والجاذبيّة، فإنّ هذا الميل كفيلٌ بإزاحة محمود ياسين جانباً، فلا جمال ولا وسامة ولا جاذبيّة تجعله يتساوى وآخرين في المرحلة نفسها للعمل، بينما النجومية تُمنَح له، فالمرحلة تلك محتاجة إلى نجومٍ، ينخرط بعض الحاصلين عليها في أعمالٍ تُمجِّد بطولات تاريخية وأخرى عسكرية حقيقية في مواجهة العدو الإسرائيلي، فتُصبح البطولات السينمائية مدخلاً إلى نجومية مطلوبة.

هذا كلّه يتطلّب قراءة أوسع، تبتعد عن لحظة رحيله. ففي لحظة كتلك، يغلب الحزن في نفوس محبّين، يتذكّرون غيابه عن المشهد أعواماً عدّة، ويستعيدون أفلاماً وأعمالاً أخرى، يرون فيها ذواتهم لأسبابٍ مرتبطةٍ بذكرى أو حالة أو انفعالٍ.

نجوم وفن
التحديثات الحية

فمحمود ياسين متنوّع الأدوار ومتعدّد الأنواع، وللرومانسية جزءٌ في سيرته، كما للسياسة والاجتماع أيضاً. غليان المراحل التاريخية لمصر والعالم العربي، بين ستينيات القرن الـ20 وثمانينياته على الأقلّ، في أنماط الحياة والعلاقات والتغيّرات، دافعٌ إلى تنويعٍ بصريّ يُشارك محمود ياسين في نتاجاته الفنية، كمن يُقْدِم على تأريخ سيرته الخاصّة، عبر تأريخ تلك المرحلة والنتاجات.

وهو، إذْ يمتلك ملامح جامدة في وجهه وعينيه ونبرته وسلوكه ومشيته، يختلف جذرياً عن حيوية نور الشريف (1946 ـ 2015)، وانغماسه شبه المطلق في أعماق التركيبة الاجتماعية النفسية للشخصية، وعن صرامة محمود عبد العزيز (1946 ـ 2016)، المنفتحة على نقيضها التام، المتمثّل بضحكٍ وسخرية، وعن وسامة حسين فهمي (1940)، الطاغية بقوّة على التفاصيل كلّها لحِرفية التمثيل.

ملامحه الجامدة تختلف كلّياً عن صرامة شخصياتٍ في تعاطيها مع ذاتها ومحيطها وأحوال بيئتها، إذْ تُعلي حاجزاً بين الممثل والشخصية والمُشاهِد، فتحجب البنيان الإنساني للشخصية، وتجعل أداء الممثل عادياً إنْ لم يكن باهتاً، وتطرح على المُشاهد سؤال المُشاهدة والمتابعة.

غير أنّ هذا كلّه لن يحول دون تنبّه إلى أدوارٍ "جبّارة" له، وإنْ يكن عددها قليلاً، في سيرة مليئة بالعناوين والحكايات والحالات والانفعالات. مع هذا، يعجز ياسين عن إلغاء شرود عينيه الذي يُميّز شخصياتٍ "رومانسية" له، فإذا بالشرود نفسه يظهر في أفلامٍ غير معنيّة إطلاقاً برومانسيةٍ، غير متمكّن من بلوغ شفافيّتها وسحرها، ومن التساوي مع بساطتها وتعقيداتها في آنٍ واحد.

يغيب محمود ياسين في عزلةٍ تسبق رحيله. تعبٌ ومرضٌ وثقل سنين وأشغال تؤدّي به كلّها إلى عزلةٍ يخرج منها إلى الغياب الأخير. وفرة أفلامه، وأعماله الأخرى أيضاً، محتاجة إلى نقدٍ يفصل القمح عن الزُّؤان، والأخير كثير. لكنّ رحيله اليوم  يؤجِّل نقاشاً كهذا، تبدو السينما المصرية القديمة بأمسّ الحاجة إليه.

المساهمون