رحيل آسيا مدني: إذا ضُرب على تلك الآلات

18 فبراير 2025
لها وطن يستحق السلام (فيسبوك)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- آسيا مدني والتراث السوداني: ارتبطت آسيا مدني بالفلكلور السوداني لأكثر من 25 عاماً، حيث استخدمت صوتها وأداءها والآلات الموسيقية المحلية مثل الدلوكة للحفاظ على التراث السوداني وتعزيزه كوسيلة للوحدة الوطنية.

- الانطلاق من مصر والتوسع العالمي: عام 2000 كان نقطة تحول لمدني بمشاركتها في مهرجان القلعة بمصر، مما ساعدها على توسيع جمهورها عالمياً، وشاركت في مشروع النيل لتعزيز الروابط الثقافية.

- الإبداع والتطوير الموسيقي: ولدت في أسرة فنية واهتمت بتطوير الآلات التراثية، وأسست فرقتها في مصر، وشاركت في أعمال فنية، مما جعلها تُلقب بسفيرة الفلكلور السوداني.

ربما لم يرتبط اسم نسائي معاصر بالفلكلور الغنائي السوداني، كما ارتبط به اسم المطربة الراحلة آسيا مدني؛ فعلى مدار مسيرتها الفنية التي بلغت 25 عاماً، لم تتخلّ، ولو للحظة واحدة، عن اللون التراثي السوداني الذي رأت فيه سبيلاً للوحدة، وإعلاء الانتماء الوطني، في بلد مزقته النزاعات بكل أشكالها الدينية والسياسية والجهوية والقبلية. لا أحد في السودان يقاوم الإيقاع، لا سيما إذا ضُرب على تلك الآلات المحلية التي اعتادتها الآذان من أزمان بعيدة، وقد كان للإيقاع وعزفه دور كبير في شهرة آسيا مدني وانتشارها وتقدير الجماهير السودانية لها. استطاعت الفنانة الراحلة أن تشكل حالة سودانية واضحة، بصوتها وأدائها والموسيقى والآلات التي تصحبها، وحتى بحرصها المستمر على زي يُعلن هويتها وانتماءها. لكنها، أيضاً عُرفت برؤية تطويرية تقدم بها التراث للأجيال الجديدة، تقوم على دمج بعض العناصر الحداثية في العمل الغنائي.
شكّل عام 2000 نقطة الانطلاق في مسيرة مدني، فقد شاركت في مهرجان القلعة الذي تنظمه دار الأوبرا المصرية. لم يكن الانطلاق من مصر عادة للفنانين السودانيين، لأن الغالبية من الشعب المصري لا تكاد تتذوق الغناء والموسيقى التي يهيمن عليها السلم الموسيقي الخماسي. وفي الغالب، لا يجد الغناء التراث السوداني اهتماماً مصرياً إلا في الجنوب، حيث التقارب الكبير في الذوق بين سكان الأقصر وأسوان والنوبة وبين أهالي الشمال السوداني، لكن نجاح الحفل الأول شجّعها على الاستقرار في مصر منذ عام 2001. ومن تلك اللحظة، عملت مدني بإصرار على توسيع الجمهور المصري الراغب في المنتج الغنائي والموسيقي السوداني، بل وجذب مستمعين من غير العرب، ليتعرفوا إلى التراث الغنائي وإلى الإيقاعات السودانية المتأصلة محلياً. بدت مدني باعتبارها صاحبة رسالة، أو مشروع واضح المعالم، يتخذ من القاهرة منصة انطلاق إلى دوائر مصرية وأفريقية وعالمية أرحب. انبهر الجمهور وهو يشاهد المطربة السودانية تقدم الإيقاعات التراثية بعزفها على آلات القرعة أو الدلوكة، وأعجب الجمهور المصري وهو يستمع إلى مطربة سودانية، تغني تراثها وسط فرقة عازفين جميعهم من المصريين، ما أضفى بعض الاختلاف على روح الأعمال التي تقدمها.
حملت آسيا مدني رسالة تعايش وتقريب بين الشعوب عموماً، وبين أبناء دول حوض نهر النيل خصوصاً، وأجبرتها تلك الرسالة على مراعاة التنوع التراثي في الموسيقى الفلكلورية لهذه البلدان، وأيضاً مراعاة التنوع داخل الوطن السوداني الفسيح، فقدمت أغاني شعبية مأخوذة من الشمال والوسط والجنوب والغرب، وجذبت شعوب حوض النيل حين غنت بالإثيوبي والإريتري والمالي والسواحيلي، ضمن ما يعرف بمشروع النيل الذي شاركت في تأسيسه، وكانت قوته الدافعة لتعظيم المشتركات بين الشعوب التي تسكن حول النهر العظيم، فأقامت عدة حفلات في تلك الدول، ومنها كينيا ورواندا وإثيوبيا، ثم انطلقت إلى الجاليات الأفريقية في الولايات المتحدة الأميركية، عبر سلسلة عروض استمرت عدة أشهر.
ولدت آسيا مدني في مدينة ود مدني، التي تقع إلى الجنوب من العاصمة السودانية الخرطوم، وهي مدينة تهتم بالثقافة والفنون والموسيقى، وفتحت عينيها على أسرة تتمتع بقدر كبير من الثقافة، وكان الشغف المبكر الذي أظهرته الفتاة بالغناء والموسيقى دافعاً لأسرتها كي توفر لها المناخ الملائم للتعلّم والانطلاق والإبداع، وتشرّب التراث الموسيقي السوداني بكل أنواعه، واكتساب مهارات عرضه وتقديمه، وتحبيب الجماهير في إيقاعاته.
بعد عام واحد من استقرارها في مصر، أسست مدني فرقتها الموسيقية، التي ساعدتها على عرض أغنياتها التراثية، بعد تطعيمها بعناصر خارجية مصرية أو عالمية، ومع إسهامها الموسيقي شاركت مدني كذلك في المسلسل المصري "بطن الحوت"، بجانب عدد من النجوم المصريين، فكان ذلك من أسباب اتساع شعبيتها بين أبناء الجالية السودانية في مصر، وأيضاً بين المصريين أنفسهم. كما شاركت أيضاً في فيلم بعنوان "بعيداً عن النيل" الذي يحكي قصة 12 موسيقياً من عدة بلدان أثناء رحلتهم في الولايات المتحدة الأميركية، والمصاعب التي تعرّضت لها رسالتهم من أجل الوحدة والتعايش.
كان احترام مدني لكل أشكال التراث الموسيقي السوداني كبيراً، وليس أدل على ذلك من اهتمامها بموسيقى الزار وإتقانها طرق عزف إيقاعاته، وكذلك حركاته الجسدية. لم تكن تنظر إلى الجانب الطقوسي فيه، ولم تنشغل بالانتقادات التي توجه إلى تلك الطقوس، وإنما تعاملت معه باعتباره موروثاً موسيقياً أو إيقاعياً يستحق التعلم والعرض والحفظ من الضياع والنسيان، فالاهتمام بالتراث يأتي لكونه تراثاً، ولأنه يتضمن عناصر فنية جمالية لا تكتسب إلا بمران طويل.
صنّفت مدني نفسها بأنها فنانة مستقلة، تحمل مشروعاً فنياً خاصاً بها، لكن فئات واسعة من جمهورها لقبوها بسفيرة الفلكلور، بسبب قدرتها الكبيرة على تقديم التراث بعد إكسائه مسحة عصرية تساهم في رواجه بين الشباب والأجيال الجديدة. لكن رغم كل هذه العناية بالتراث، فقد كان لمدني أغانيها الخاصة الجديدة، وكأنها تثبت بها قدرتها على تقديم ألوان من الغناء السوداني بعيداً عن المخزون التراثي، ولتؤكد أن انحيازها للفلكلور يأتي بقرار واع واختيار حر، وليس عجزاً عن مواكبة الحالة الغنائية السودانية المعاصرة.

عاشت مدني طفولتها في أسرة فنية، وتفتحت عيناها لتجد أخاها الأكبر عازفاً ماهراً للإيقاعات التراثية. تقول إنها حفظت عنه مبكراً كثيراً من "الأرتام"، كما تعلّمت العزف على كثير من الآلات. تضرب مدني مثلاً بآلة الدلوكة التي تُصنع في السودان من الفخار والجلد، وهي مواد لم تكن مناسبة للأجواء المصرية مرتفعة الرطوبة، ولا مناسبة للسفر كثيراً حول العالم، وهو ما جعلها تفكر في تطوير دلوكة مناسبة، مصنوعة من الأخشاب... أي علاقتها بالآلات تجاوزت العزف إلى الفهم والتطوير.
رحلت آسيا مدني أول من أمس، وكان طبيعياً أن يكون الحزن على فقدانها عاماً بين جمهورها الذي كان يتتبع حفلاتها، ويلتقط رسالة السلام والتعايش التي تقدمها. استحضر محبوها جهدها الكبير وعملها الدؤوب من أجل ترسيخ التعارف والمحبة بين أبناء حوض نهر النيل، ومواجهة دعوات حرب المياه التي تتصاعد باضطراد منذ سنوات. تذكروا أن مطربة واحدة، غنّت بكل لهجات السودان، لتؤكد أن وطنها يستحق السلام.

المساهمون