ذكرى رحيل كارم محمود... العمر من الأوّل

12 يناير 2025
تضم تجربة كارم محمود أكثر من ألف أغنية جمع المؤرشفون ثلثيها (فيسبوك)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- كارم محمود، مطرب مصري بارز في القرن العشرين، تميز بصوت فريد وقدرة على أداء القوالب الغنائية الكلاسيكية، مع مهارات في العزف والتلحين، مما ساعده في إنتاج أكثر من ألف أغنية متنوعة.
- رغم موهبته، لم ينل الشهرة الكافية مقارنةً بأقرانه، لكنه شارك في 20 فيلمًا ولعب دور البطولة في العديد منها، بالإضافة إلى الصور الإذاعية الغنائية.
- تميز بشخصية هادئة ومتدينة، مما أبعده عن المنافسة، لكن شعبيته استمرت بفضل أغانيه الشهيرة مثل "أمانة عليك يا ليل طول".

يكاد المهتمون بالغناء العربي يجمعون على أن المطرب المصري كارم محمود (1922 - 1995) امتلك أحد أجمل الأصوات الرجالية بين أهل الطرب في القرن الماضي؛ فحين يغني، يشعر المستمع فوراً بالارتياح، لصفاء صوته وسلامته وتميزه. كان متمكناً من أداء القوالب الكلاسيكية، ومن العزف على العود، وتمتع بقدرات تلحينية جيدة. كل هذا ساعده على الإنتاج الغزير، فأنجز في حياته أكثر من ألف أغنية، استطاع الهواة والمؤرشفون في المواقع والمنتديات الموسيقية أن يجمعوا أكثر من ثلثيها.

ومع الغزارة، اتسمت أغنيات كارم محمود بالتنوع في أشكالها وموضوعاتها، فالرجل من تلك القلة التي يصح أن ننسب إليها أداء كل القوالب الغنائية. ومن يطالع قوائم تسجيلاته، سيجد فيها الأدوار والموشحات والقصائد والطقاطيق والمحاورات والمنولوجات والأغاني المسرحية والسينمائية والصور الإذاعية، وسيجد رصيداً كبيراً من الأعمال الدينية والوطنية.

لكن امتلاك مثل هذا الصوت بالغ الأسر، ومثل هذه القدرات الغنائية، منح قدراً من المشروعية لأصحاب فكرة "الظلم الفني"، الذين يرون أن كارم محمود يعد أحد نماذجه الواضحة، وأنه كان يستحق شهرة أكبر، وجماهيرية أوسع، لا تقلّ بأي حال عن جماهيرية فريد الأطرش أو عبد الحليم حافظ، برأيهم، كان يستحق أن يوضع في مكانة تلحينية أكبر، فإن لم يكن من طبقة العمالقة والرواد، فليكن من طبقة الصف الأول أو حتى الثاني، لا أن يُرفع اسمه من حديث الألحان والملحنين.

كان صوت كارم الفتان قوة دافعة، ألقت بصاحبها إلى ميادين المسرح والسينما، لأنه ظهر في عصر يغفر فيه جمال الصوت والغناء ضعف القدرات التمثيلية. بدا وكأنه "فنان شامل"، أو ربما كان كذلك بالفعل، إذ لا يستطيع أحد أن يتجاوز بالعد أصابع اليد الواحدة وهو يسرد أسماء من جمع الغناء، إلى التلحين، إلى العزف، إلى التمثيل مسرحياً وسينمائياً، إلى الصور الغنائية الإذاعية، كذلك فإنه حاضر بصوته وعوده عند الحاجة إلى توثيق الطرب التراثي، من موشحات أو أدوار. إذن، كان لصوته دور البطولة في الدفع به إلى مساحات غير غنائية، تفتعل لتخدم الغناء، أو ربما ليخدمها الغناء. ومع الزمن، طويت هذه المساحات، وبقي صوت الرجل له هواة ومحبون.

لم يكن صوت كارم محمود من النوع الجبار المستعلي، ولم يكن أداؤه -طوال حياته- استعراضياً، بل كان دائماً يتميز بحنو ورفق، يشعر معه المستمع بوداعة صاحبه وطيبته. كانت هذه السمة ظاهرة جلية، إلى درجة أن بعض المهتمين بغناء هذه الحقبة وصفوه بـ"الصوت الطيب". ويجمع كل من تعامل مع هذا المطرب على أن "الطيبة" لم تكن في صوته فقط، بل كانت صفة راسخة لشخصيته، فكارم رجل هادئ خلوق متدين.

تكشف الصفحات الأولى من مسيرته عن نشأة محافظة، فأبوه كان شيخاً قارئاً للقرآن، وعنه ورث كارم جمال الصوت. لكن الأب لم يكن حفياً بهواية ابنه الفنية، ووقف بكل قوة ضد رغبته في دراسة الموسيقى أو احتراف الغناء. وفي مرات عدة وصلت مظاهر الرفض الأبوي إلى التعنيف والضرب. لكن هواية الغناء كانت تجري في دم كارم، فهرب أكثر من مرة من مدينته دمنهور، إلى أن استقر في القاهرة في النصف الثاني من عقد الثلاثينيات، وبدأ دراسة الموسيقى في معهد فؤاد الأول الشهير، حتى تخرج منه عام 1945.

في المعهد، حظي كارم برعاية رئيسه، مصطفى بك رضا، الذي كان يعمل في الوقت عينه مستشاراً فنياً للإذاعة المصرية. سهل رضا التحاق كارم بكوكبة المطربين الإذاعيين، وسهل له صوته الأخاذ طريق التتلمذ على يد أعلام كبار، من أمثال محمد حسن الشجاعي، رئيس قسم الموسيقى والغناء في الإذاعة، والشيخ درويش الحريري، أحد أكبر حفظة الموشحات في زمنه. أصبح كارم محمود أحد ألمع مطربي الإذاعة المصرية في عصرها الذهبي، ثم بدأ خطواته نحو السينما عام 1946، بفيلم "ملكة الجمال"، ثم فيلم "الخمسة جنيه" في العام نفسه.

استمرت تلك المسيرة السينمائية حتى عام 1955، حين مثل آخر أفلامه "تار بايت". بلغ رصيد الإسهام السينمائي لكارم 20 فيلماً، لعب في معظمها دور البطولة. وفي الإذاعة، لم يكن مجرد مطرب، بل كان أحد أبطال ما يعرف بالصورة الإذاعية، فاشترك بالتمثيل والإلقاء والغناء في عدد كبير منها، مثل: "الغروب" و"عوف الأصيل" و"راوية" و"جزيرة السبع بنات"، و"أبناء الفنون"، و"الشاطر حسن"، و"قطر الندى"، وأيضاً الصورة الأشهر على الإطلاق "الجوز الخيل".

مع كل هذا النشاط الفني الضخم، بقي كارم محمود على طبيعته الوادعة، لا يدخل في معارك الوسط الفني، ولا يزاحم أحداً في مكان أو مكانة. لكن يبدو أن طبيعته الشخصية وتدينه وابتعاده عن المعارك، قتلت عنده فكرة المنافسة، أو السعي إلى مكانة أكبر أو شهرة أوسع. وبطبيعة الحال، انعكس ذلك على منتجه، فرغم جمال صوته، ورغم قدراته الغنائية، إلا أن من يستمع إلى قائمة تسجيلاته التي جمعها الهواة وأصبحت متاحة على مواقع التواصل والمنتديات الموسيقية، سيجد أن كثيراً من أغانيه تنتمي إلى اللون "الخفيف"، القصير زمنياً، البسيط تلحينياً.

لم يهتم الرجل يوماً بأن ينافس أحداً في أداء القصائد المطولة، من النوع الذي كان يبنيه عبد الوهاب أو السنباطي، أو كان يؤديه عبد الحليم حافظ. لا تعرف أعماله ذلك اللون الملحمي، ولا المفاجآت الدرامية. لم يكن من الأصل مهتماً بالمنافسة في هذه المساحة، رغم صوته القادر، ومخارج ألفاظه التي صقلتها تلاوة القرآن.

من الواضح أن شهرة كارم محمود وجماهيريته، ارتبطت بشدة بالإذاعة. وحين بدأ دور الإذاعة في التراجع، أخذت أعماله تنحسر تدريجياً وببطء، إلى أن انزوى الرجل، وآثر ابتعاداً اختيارياً عن كل أشكال النشاط الفني. لم يكن الانحسار ظلماً فنياً وقع عليه أو فرضته قوة قاهرة. كانت لديه حدود ومعايير لا يتجاوزها عن اختيار أعماله، ولم يتورط يوماً في تنافس تجاري.

كذلك فإنه لم يُصنف جيلياً. وحين جاء إلى القاهرة عام 1938، كان ما يعرف بغناء عصر النهضة في مرحلة طيّ صفحته الأخيرة، وحين التحق بالإذاعة، كانت "الحداثة" الموسيقية والغنائية قد استقرت واطمأنّت، وكان لها أعلامها وروادها، فلم يكن محسوباً على الجيل النهضوي، ولا حتى بالانتماء الفني، ولا هو من مؤسسي المرحلة الجديدة رغم مكانته الإذاعية، ولم يكن ليعيد طرح نفسه بعد ثورة يوليو 1952، باعتباره مطرباً شاباً يمثل مرحلة سياسية واجتماعية مغايرة، كما فعل عبد الحليم، وإن استمر سطوعه الإذاعي لفترة ليست قليلة. كل هذه العوامل تشابكت لتساعد الرجل على قرار الانزواء.

لكن العزلة الاختيارية لا تعني محو اسم كارم محمود من المدوّنة النقدية، فإنتاجه وتأثيره وجماهيريته وتعلق قطاع من المستمعين بصوته لم تكن لتزول بسهولة. والأهم من ذلك، أن صاحب هذا الصوت الآسر، كان قد أهدى مستمعيه عدة أغانٍ حققت نجاحاً كاسحاً، وشهرة جماهيرية في كل البلاد العربية، ثم استمرت شعبية تلك الأغاني خلال فترة عزلته وبعد رحيله، وإلى اليوم.

نعم، رحل كارم محمود في 15 يناير/ كانون الثاني عام 1995. ونعم، مرت ثلاثة عقود على رحيله، لكن الوجدان العربي المعاصر، والأجيال الجديدة، والإذاعات بطول العالم العربي وعرضه، والمحافل الغنائية في مسارح القاهرة ودمشق وحلب وبغداد والرياض وتونس والرباط، ما زالت تردد: "أمانة عليك يا ليل طول.. وهات العمر من الأول".

وما زالت الجماهير تتمايل مع مطرب شاب يستعيد أغنية: "عنابي.. يا عنابي.. يا خدود الحليوة". وما زالت البرامج الموسيقية الحية تكرّر لحنه الشعبي الفاتن: "والنبي يا جميل حوش عني هواك". وبالطبع، يتذكر عشاق فيروز جيداً أوبريت "زرياب" من كلمات وألحان الأخوين رحباني عام 1956. كان صوت كارم محمود في هذا العمل مكافئاً، أو ربما متفوقاً.

يستحق كارم محمود في ذكرى رحيله الثلاثين إنصافاً من أعماله الساطعة الشهيرة، لأن حجم انتشار هذه الأعمال كان سبباً في اختزال مسيرته الكبيرة وإنتاجه الضخم في عدة أغانٍ لا تتجاوز أصابع اليدين. إن مسرد أعمال كارم، وقائمة ملحنيه، والألوان العديدة التي أداها، تستحق التفاتاً وانتباهاً وإنصاتاً، مع الإقرار بأن ذلك الإنصاف لن ينزل "أمانة عليك" من فوق عرشها.

المساهمون