استمع إلى الملخص
- يختار لينش الصمت في شارة النهاية، مما يعكس فلسفته الفنية التي تتقاطع مع أفكار جون كيج حول الصمت كعنصر موسيقي، محدثًا تجربة سينمائية فريدة.
- تتجلى فلسفة لينش في تصوير جون ميريك كإنسان، مما يعكس الوحشية الكامنة في البشر، ويُظهر الموت كبداية جديدة، مستلهمًا من التأمل التجاوزي والهندوسية.
في فيلم "الرجل الفيل" (The Elephant Man) إنتاج 1980، للمخرج ديفيد لينش (1946 - 2025) الذي رحل منتصفَ يناير/كانون الثاني الحالي، يمنّ المشهد الأخير على الشخصية الرئيسية بدفء الموت في السرير، حيث لا بَرْد تقاسيه غيرَ الوحدة؛ قد قضى جون ميريك الممسوخ نتيجة تشوّهات مرضيّة المنشأ، حياةً أثخنَها ظلْم الناس، لا عطف فيها سوى من أمٍ فَقدها مُبكّراً، ولا رحمة إلا من عند الرب. لذا، ثمة صورتان لوالدته يضيئهما مصباحٌ بجانب الوسادة. وعلى مقربةٍ منه، مُجسّمٌ مُصغّرٌ لكنيسة.
ديفيد لينش المعروف بالغرائبيّة والنزعة الطليعيّة والخروج عن المعالجة السينمائية التقليدية، لم يأت بخيارٍ موسيقيٍّ غير عادي لأجل مصاحبة مشهدِ موت ميريك وحيداً في غرفته؛ فأيُّ مقطوعةٍ أشدُّ ارتباطاً بالرثاء من تلك المعنونة "آداجيو" (Adagio) للمؤلّف الأميركي صامويل باربر (Samuel Barber) الذي كتبها سنة 1939، لتكون في البدء الحركة البطيئة من عملٍ ذي عدّة أجزاء، صُمِّم لفريق رباعيٍّ وتريٍّ، أتى استلهاماً لقصيدة "غيورغيكا" الملحمية للشاعر الإغريقي فرجيل.
ثم ليُعيد باربر نفسه توزيعها في ما بعد لأوركسترا موسّعة من آلات الوتريات ذات الأقواس، فتُصبِح من بين أكثر مقطوعات الموسيقى الكلاسيكية جماهيريةً وتوظيفاً لدى صُنّاع الأفلام خصوصاً. لعل السبب يكمن، أولاً، في سكونيّة الدّفق الإيقاعي، الذي يُوجّه سيرَ جملها اللحنية، كأنها سُحب غمٍّ في سماء النفس، تدفعها الأنفاس بهدوء مهيب، ما جعل منها خلفيّةً سمعيّة مثاليةً، لا تطغى على الواجهة المرئية للسرديّة الدراميّة.
أما ثانياً، فأثرُها الشجِن الناتج عن تسلسلٍ هارمونيٍّ معقّد مستوحى من الحقبة الرومانسيّة المتأخّرة، يعتمد توالد انقباضاتٍ نغمية وانفراجات، تستجيب لها الجملة العصبية بتوليد مشاعر الحزن. لذا، فإن المقطوعة بحدّ ذاتها نوع من الموسيقى التصويرية.
لعلّ الغاية الدرامية من توظيفها هي حضّ المشاهد على استقراء ليلة خلودِ ميريك إلى النوم على أنها ليلته الأخيرة، لكن من دون تصريح، لا نصّاً ولا تمثيلاً، ما خلا تحريك الكاميرا ببطء نحو النافذة المفتوحة، ثم تقريب العدسة جهة الستائر، ترصد كيف تهزّها الريح، إيحاءً بانسلال الروح عبرها من الجسد إلى الفضاء الفسيح؛ لئن كانت "أداجيو" من بين المقطوعات الأوثق صلةً بموضوعة الموت، فإنها تؤكّد حضوره، وإن في حدود مجازيّة الموسيقى، وعليه تُفسح المجال أمام لغة السينما لكي تغور في الرمزية.
وبينما لا يزال وقعها يُسمع وإن في خفوت تدريجي، يذوي المشهد، بأن ينحلّ في لوحةٍ شعريةٍ من فن الفيديو، تُشاهَد عبر عدسة الكاميرا من منظور الشخصية الرئيسية، أو ما يُصطلح عليه سينمائياً Point of view، فيما يبدو أنها روحُ ميريك تعرجُ في عُلا الكون، حيث يتراءى له وجه أمه من داخل ثقبٍ أسود، يستعيد طمْأنتها له حينما كانت على فراش الموت، وهي توشك على تركه وحيداً، تخبره بأن "أبداً، إنّ ما من شيءٍ يموت، لم يزل الماء يجري، والريح تهبّ، الغيوم تحوم، والقلب يَدقّ".
بالعبور إلى شارة النهاية إبّان البدء بعرض أسماء أطقم التمثيل والتصوير والإنتاج، التي جرى العرف السينمائي أن تترافق إما بمقتطفات من موسيقى الفيلم التصويرية أو أغنية أو مقطوعة آليّة ترتبط به موضوعياً أو تستقل عنه، سيتجلّى خَرقُ ديفيد لينش للعادة، وخروجه المبتكر عن المألوف؛ إذ سيعتمد اللوذ بالصمت خِيارَ تشكيلٍ صوتي يتذيّل مقطوعة "أداجيو".
قد شهِدت من قبل كثيرٌ من شارات النهاية في السينما الناطقة، خاصةً الفنيّة منها أو البديلة، الاكتفاء بالصمت عبر الاستغناء كليّاً عن المصاحبة الموسيقية. غير أن ديفيد لينش لم يُغيّب الصوت كُليّاً عن الخاتمة ليحلّ الصمت عوضاً عنه، وإنما أحدث للصمت صوتاً، كما لو أراد أن يضع له لحناً، فاختار ما يُشبه هديرَ الهواء عند مَلْئِه الخلاء. بذلك، إنما يتجلّى نهجه المفاهيمي إزاء التعبير الفني، إذ لطالما تحدّث عن الفكرة (Idea) بوصفها البذرة التي ينبت منها الإبداع.
تتقاطع مَفهَمة ديفيد لينش للصمت موسيقياً من خلال تصويته، مع معاصرٍ طليعيٍّ هو المؤلّف الأميركي جون كيج (1912-1992) الذي اشتُهر بقوله في كتابٍ ضمّ سلسلة محاضراتٍ ومقالاتٍ له بعنوان "صمت" (Silence): "ما من شيءٍ يُدعى فضاءً فارغاً أو زماناً فارغاً، ثمة دائماً شيءٌ ما يستدعي النظر أو السمع، فلئن نحاول في الواقع، كما يهيئ لنا، أن نخلق صمتاً، لن نستطيع".
إن إعادة كل من لينش وكيج الاعتبار للصمت بوصفه كينونةً تتجاوز المفاهيمية بإطارها التشكيلي، إنما تنطلق من تشابه فلسفة كلٍّ منهما بإزاء الحياة، التي وجدا لها أصولاً في حكمة الشرق الأقصى، فبعد أن تنقّل كيج بين المعتقدات، رسا على تعاليم البوذيّة.
ما إن تمكّن بعد قراءته الفيلسوف الياباني دايسيتو سوزوكي "من فكِّ قيد العمى الروحي" على حدّ تعبيره، بات الغرض من الاشتغال بالموسيقى عند كيج "هو وصل كل ما هو مُنفصل"، وعليه إزالة الحدود الذهنية التي تفصل الصوت عن
الصمت، تماماً مثلما "ينبغي للحدود ما بين الشعور واللاشعور أن تزول، عند السعي إلى الدنوِّ من سرمد الوعي".
بدوره، كان ديفيد لينش من بين أشد الدعاة حماسةً إلى نشر ممارسة التأمّل التجاوزي (Transcendental Meditation) على الطريقة الهندوسية، التي وجّهت مسعاه الفني صوبَ جمْعِ الأضداد، لأجل النهل من معين الوعي الصافي؛ إذ بدلاً من تعمّد الإثارة من خلال إظهار صورة الوحش الذي هو عليها، نراه يؤنسن المسخ جون ميريك، مُشيراً إلى الوحشِ الكامن في كلّ إنسان، وتسمعه يضع للصمت لحناً، فيتناهى صوتاً للموت، فلا يعود الموت نهايةً بعد الآن، وإنما بداية.