استمع إلى الملخص
- يبرز التعاون العائلي في الألبوم بمشاركة زوجته بولي سايمونز في كتابة الكلمات وابنته روماني في العزف والغناء، مع تنوع الأغاني بين أنماط مختلفة وتأثيرات من البلوز والجاز.
- يختتم غيلمور جولاته بأغنية "Scattered"، المفضلة لدى الجمهور، ويخطط لإنتاج ألبوم منفرد جديد، مؤكدًا على استمراره في العمل الفني بخفة.
ترقّبت الساحة الموسيقية، خصوصاً تلك المهتمّة بالروك الكلاسيكيّ والبديل، صدور نتاج ديفيد غيلمور الجديد بتحفّظٍ يشوبه الحذر، بعد رفعه سقف توقعات جمهوره خلال حملة ترويج الألبوم. وبالفعل، لاقى Luck and Strange منذ صدوره احتفاءً وتقييماتٍ عالية. تكلّم عازف الغيتار الأساسي في فرقة "بينك فلويد" عن الألبوم بوصفه أفضل عملٍ فنّي قدّمه منذ "الجانب المظلم من القمر" عام 1973، قبل أن تعصف بالفرقة الخلافات الإبداعية والشخصيّة. يتحدّث غيلمور في الإصدار المرئي المرافق لإطلاق التسجيل الجديد عن مسيرته الممتدّة لنحو ستين عاماً، صنع خلالها خمسة ألبومات مستقلّة، إضافةً إلى تولّيه دفّة قيادة فرقة الروك ذات الشعبية خلال مسيرتها اللاحقة لخروج روجر ووترز. كلا الدورين ليسا مجال اهتمامه كما يوضح، بل يفضّل العمل كجزء من مجموعة يؤدّي فيها دوره.
يتحقق هذا الأمر في Luck and Strange الصادر في سبتمبر/أيلول الماضي. تولّى الإنتاج الموسيقي تشارليز آندرو، الحائز عدّة جوائز بريطانية عن فئة الإنتاج خلال عمله مع فرقة Alt+J. يصفه غيلمور بأنّه متسيّد أثناء العمل، ولا يحفل كثيراً بما يمثله إرث "بينك فلويد". بالنسبة لتشارليز آندرو، فالكلمات هي التي تحدد الأغنيّة، ووفقاً لها يتسق الهيكل اللحني، وكذلك الآلات المشاركة ومساحاتها وتداخلاتها. في ذلك خروجٌ عن المألوف بالنسبة لجيل الستينيات والسبعينيات الذهبي؛ إذ تتدفق الموسيقى عبر التجريب ومحاورات عازفي الآلات في البحث عن لحن أولًا، ثم تصاغ لها الكلمات كما غالبية نتاج تلك الحقبة.
تمتد رحلة الألبوم لـ48 دقيقة: معزوفتان قصيرتان، وثماني أغانٍ. تحمل التراكات نظرةً عن التقدّم في السنّ، وتتفكّر في لحظات البداية، إضافة إلى جلسة موسيقية مدتها 16 دقيقة مستعادة من عام 2007. نسمع غيلمور رفقة الراحل ريتشارد رايت، عازف الكيبورد من "بينك فلويد"، يمازجان الأصوات. يقترب اللحن في بدايته من أحد مقاطع دوغز من ألبوم "أنيمالز" الشهير للفرقة، ثم يخرج عنها. يتعثّر المزيح ثم يبدأ التناغم الذي ستولد منه أغنية Luck and Strange.
جاءت افتتاحية الألبوم بمعزوفة Black Cat تدليلاً على هويّة العازف وأسلوبيّته الشهيرة في ثني علامات الموسيقى على غيتاره الكهربائي، مع خلفية على البيانو الكهربائي من عزفه أيضاً. منذ العلامة الأولى، ندرك ما نحن بصدده، وأن غيلمور ما زال متمكّناً ومتملكاً لموهبته، فيقدّم في دقيقةٍ ونصف لحناً أليفاً للأذن بعلاماتٍ جديدة وصافية، وكيانٍ لا يُشكّ لوهلةٍ بصاحبه.
تدخل أغنية الألبوم التي تحمل عنوانه باقتباسٍ سريع للجلسة الموسيقية، التي ستبقى في الخلفية، وتخبو مع الأداء الصوتي المميز، ومساحات الإيقاع التي تقود المقطوعة وفق رؤية قارع الطبول ستيف غاد. تتحدّث الأغنية عن جيل "بومرز" في بريطانيا بعد الحرب العالمية الثانيّة، ومنهم تشكّلت حالة فرق الروك التي شكّلت المشهد الفني حينها. العزف الختامي للأغنية يأتي قصيراً، ومع ذلك يتنوع؛ فتتعدّد أنماط من العزف المنفرد، لكنّها محدودة الزمن، ويُسخّر لها تأثيراتٌ مختلفة أقرب إلى الجاز، بما يُنبئ أنها ستنال مساحة زمنيّة أطول خلال الحفلات المباشرة.
تخيّم ذكرى عضو "بينك فلويد" السابق، سيد باريت، على الأغنية التالية؛ The Piper’s Call. لا تطمح الأغنية الجديدة إلى إزاحة الأغاني الراسخة التي صنعتها الفرقة عن العازف والمغنّي المتفرّد، فهي لن تحظى بمكانة Wish You Were Here، إلّا أنها معنيةٌ أكثر بمسارات الحياة والدروب التي تركها باريت لغيلمور كي يسلكها. كُتبت الأغنية على آلة اليوكيليلي (الغيتار الصغير)، ويحضر صوتها في الافتتاحية. لم تترك الأغنية أثراً كبيراً لدى صدورها منفردةً في إبريل/نيسان؛ فلم تبشّر حينها بجديدٍ أو إضافةٍ بين أعماله الأكثر حضوراً بين المستمعين.
في A Single Spark يرتد غيلمور إلى مساحته المعهودة، وهي أكثر أغاني الألبوم قرباً من أعماله السابقة من ناحية البُنية. تقدّم آلات السيمفونية الزخم، إضافةً إلى غناء الجوقة الذي يدنو من الصدى. بهذا، يمكن تتبع آثار من تقنيات سابقة عمل بها غيلمور، أبرزها قرع الجرس كما في High Hopes. تأخذنا الموسيقى وقتها وهي تخبو وصولاً إلى الصمت، إلى مناخٍ مناسب للكلمات التي تتحدث عن لحظة الموهبة التي تنوس بين لانهائيتين. ينتصف الألبوم بمعزوفة Vita Brevis التي تعني الحياة قصيرة. تنتهي القطعة حين توشك أن تبدأ. وقبل القبض على هيكلها تماماً، تتركنا بلمحاتٍ من صوت الغيتار الخشبي على خلفية أصواتٍ إلكترونيّة ودفقاتٍ من السلايد غيتار.
تحضر مساهمة عائلة غيلمور واضحةً في الألبوم؛ زوجته الشاعرة بولي سايمونز في نظم الكلمات، وابنته روماني عزفاً على آلة الهارب، والأداء في أغنيتين، كذلك يشارك أبناؤه بهدوء في جنبات هذا القسم. يبدأ النصف الثاني من الألبوم بأغنيةٍ Between Two Points من فرقة البوب The Montgolfier Brothers، تؤدّيها روماني. رافقت الأغنية نشأة الشابّة، واستثنى غيلمور نفسه من أدائها، فكلماتها تستعرض الهشاشة الإنسانية، ما يخالف هيئته وطبيعة صوته. تسود الأغنية مشاعر مرهفة عن الانكسار، وتختتم بنقلات هادئة في العزف المنفرد على الغيتار الكهربائي. مجدّداً، يعود الصخب المتأثر بمزاج البلوز في Dark and Velvet Nights. يُغنّي غيلمور قصيدة زوجته التي أهدته إياها في ذكرى زواجهما، بإيقاعٍ راقص، وجملٍ موسيقيّة تأسر المستمع ليهتزّ معها. تبدو الأغنية مختصرةً عن نماذج أعمال غيلمور السابقة، فلا وجود لسولوهات بين المقاطع، لكن هذا يزيد تماسكها بدل أن تشكل جسور العزف المنفرد عوازل بين مقاطعها، وتبقى الأذن تترقّب غناءً يتجدّد بعد العزف في نهايتها.
تتخذ أغنية Sings من كلمة طفل غيلمور المسجّل منذ عقدين اسماً لها. تتضمن الأغنية شريط الديمو من عزف غيلمور في منزله أثناء تدرّبه وتطوير ألحان جديدة. فوفقاً لنموذج عمله، يردّد أصوات "لا لالا لا" أثناء العزف. يهمهم الطفل الصغير لأبيه: "غنّ يا أبي". تتحدث الأغنية عن العزلة والافتراق عن الأخبار، والخروج عن الشكّ، تتوّج هنا الحميمية الأسريّة في هذا الشقّ من الألبوم.
خلال جولاته اللاحقة للألبوم، يختتم غيلمور الأمسيات بأغنية Scattered، أطول أغاني الألبوم، والمفضّلة لدى الجمهور والنقاد على حدٍّ سواء. يجد صوت الغيتار مساحة واسعة للترنّح والاستكشاف، رفقة كلمات شارك هو وزوجته وابنه في كتابتها. بعض الكلمات وصفيّة، تترك للمستمع تصوّراً بصرياً عن عجوز هرم في مجرى النهر، يدرك الوقت كالماء المتدفّق الذي يعصيه بلا نهاية. تمسك السيمفونية بعناصر الأغنية، وينفرد البيانو بنغمات متلاحقة يجاوبها إيقاعٌ يزيد تمرّدها، وينصرف غيلمور للعزف على آلة الكومبوش التركيّة، إضافة إلى الغيتار الخشبي والكهربائي.
تأتي النهاية مع Yes, I Have Ghosts بأداء مزدوج لغيلمور وابنته. تبتعد الأغنية بتوزيعها عن الآلات الإلكترونية، وتحافظ على حميمية اجتماع الأسرة في الفناء، مع لمحاتٍ من موسيقى الكاونتري. يأسر التباين بين الصوتين ذهن غيلمور، يرى سحراً في توافق أصوات أفراد العائلة، يصبح صوته أقرب إلى الأصوات الصادرة من جرح في الحنجرة، وينساب الهدوء في صوت روماني، لتمنحه الطمأنينة.
ليس من المعروف إن كان غيلمور، وقد بلغ الـ78 من عمره، سيجدد جولاته بعد النجاح الذي حققه في الولايات المتحدة وبريطانيا، لكنّه يؤكد عزمه على العمل لإنتاج ألبوم منفرد، يكرّس فيه التجربة بخفّةٍ لا تترك إرث الفنان عائقاً يبقيه محاصراً بين كلاسيكيّاته.