دمشق في عهد الأسدين... صورة الابن تُخفي صورة الأب

17 فبراير 2025
ساحة السبع بحرات بعد إعادة بنائها (أنور عمرو/ فرانس برس)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- بعد سقوط النظام السوري، أزال شبان صورة بشار الأسد في مطار المزة ليجدوا تحتها صورة لحافظ الأسد، مما يعكس تراكب التشوهات البصرية والنفسية في دمشق خلال حكم الأسدين الذي استمر 54 عاماً، والذي شمل تغيير أسماء الشوارع والساحات.

- تعود جذور تشويه الهوية المعمارية لدمشق إلى مخططات المهندس الفرنسي ميشيل إيكوشار، حيث تم شق المدينة القديمة بشوارع عريضة، مما أدى إلى تدمير أجزاء من الحي العربي في ساروجة، واستمر هذا النهج خلال حكم الأسدين.

- شهدت دمشق تغييرات في المناهج الدراسية التي مجدت الأسدين، وتمركزت دوائر الدولة في العاصمة، مما حولها إلى سجن كبير بأبنية إسمنتية قبيحة، ومشاريع مثل "وردة أسماء" تعكس مفاهيم "الحداثة" من وجهة نظر النظام.

خلال الأيام الأولى بعد سقوط النظام السوري، تجمع عدد من الشبان لإزالة صورة ضخمة لبشار الأسد، متموضعةٍ على جدار كبير في مطار المزة العسكري في دمشق. وفي أجواء احتفالية، بدؤوا بإزالة الصورة وتمزيقها، ضمن حالة رمزية لا تكثف فكرة الانتصار السياسي فحسب، بل الرغبة العارمة في "تنظيف" عاصمتهم، وتخليصها من التشوه البصري والنفسي الذي أغرقها فيه النظام السابق. الطريف في الأمر هو أن عملية نزع الصورة الضخمة لبشار الأسد، سرعان ما كشفت عن صورة أخرى تحتها، بالقياس نفسه، لحافظ الأسد.
طرافة هذا المشهد، بمرارتها وسوداويتها، هي طرافةٌ موحيةٌ تعبّر عن تراكب طبقتين من التشوه فوق وجه دمشق، في عهد الأسدين الأب والابن، الذي استمر لـ54 عاماً. عهد غيّر ملامح المدينة وهويتها المعمارية، مروراً بساحاتها وحدائقها ونهرها الأهم، بردى، بتفرعاته السبعة، ووصولاً إلى أسماء الأزقة والشوارع والساحات، وليس انتهاءً بالطريقة الكاريكاتيرية لانتشار صور بشار الأسد في كل مكان، والعلم ذي النجمتين بوصفه طلاءً معتمداً للحواجز الإسمنتية ولواجهات المحلات التجارية، في عملية تسخيفٍ وامتهانٍ فظيعة لرمزٍ وطني تاريخي، عبّر عن مرحلة الوحدة بين سورية ومصر، عبر تحويله بالإرغام من علم لكل السوريين إلى علمٍ للنظام الحاكم، بل للسلطة الحاكمة تحديداً، وزعيمها بشار الأسد.
المخططات الأولى لتشويه الهوية المعمارية لدمشق، أقدم المدن المأهولة في العالم، لم يضعها بشار الأسد ولم يضعها أبوه من قبله، ولكنهما "أفضل" من حولها إلى واقع. دارسو العمارة الدمشقية يعرفون جيداً اسم ميشيل إيكوشار، المهندس الفرنسي الذي صاغ تصوراً محدّداً لإعادة رسم دمشق في ثلاثينيات القرن الماضي، خلال مرحلة الاحتلال الفرنسي لسورية. ضمن تصوره الهزلي عن العصرنة والتحديث، وضع إيكوشار تصوراً لشق المدينة القديمة عبر مجموعة من الشوارع العريضة المستقيمة، بينها ما بات يعرف لاحقاً بـ"شارع الثورة"، ونُفّذ نهاية ستينيات القرن. كان الغرض من تخطيط إيكوشار له، كما تبين الباحثة السورية ناديا خوست، شَقّ وتدمير أجزاء مهمة من الحي العربي في ساروجة، الذي كان معقلاً من معاقل المقاومة الوطنية ضد الفرنسيين.
الهوس الغربي في إعادة رسم بلداننا باستخدام المستقيمات، امتد من طريقة رسم خرائط سايكس بيكو إلى التنظيم الداخلي للمدن؛ مستقيمات وظيفتها شقّ المدن القديمة وتدمير هويتها وتبسيطها، عبر تفكيك تعقيدها وغناها وتداخلها المتناسب مع طبيعة الشعوب التي تسكنها، التي لطالما رأت في الأقواس والقناطر والدوائر تعبيراً أكثر دقة عن غناها ومرونتها وقدرتها على احتضان بعضها بعضاً، وعلى التفاعل المرن مع العواصف السياسية المستمرة عبر تاريخها الطويل، إذ تبتلع غزاتها وتعيد إنتاجهم، محافظة على جوهرها. لم يُقدَّر لمخططات الفرنسيين أن تتحول إلى واقع، إلا بعد أكثر من عشرين عاماً من جلائهم عن سورية، وعلى يد نظام البعث بأطواره المتعاقبة، خاصة الأسدين.
إذا حاولنا تقصّي التشوهات التي أحدثها الأسدان في وجه دمشق وعموم سورية خلال أكثر من نصف قرن، فسنجد أنفسنا، وكما مثال الصورة في مطار المزة، أمام عدة طبقات من التشوه متراكبة بعضها فوق بعض.
الطبقة السطحية الأولى، تتمثل بصور الأسدين وتماثيلهما والشعارات الموزعة على الجدران التي ما تزال عمليات إزالتها مستمرة وقد تأخذ وقتاً. الطبقة الثانية هي أسماء الشوارع والساحات والمرافق العامة؛ "جسر الرئيس حافظ الأسد"، و"مكتبة الأسد"، و"مشفى الباسل"، و"مدينة البعث"، و"شارع الثورة" نسبةً إلى ما يُسمّى ثورة الثامن من آذار التي استولى عبرها البعث على السلطة عام 1963 بانقلاب عسكري... وغيرها من الأمثلة التي قد تصل، من دون مبالغة، إلى عشرات الآلاف في مختلف محافظات سورية.
الطبقة التالية هي المناهج الدراسية في المدارس والجامعات، التي لا تقتصر على التمجيد المباشر للأسدين، وصولاً إلى تسمية حافظ الأسد بـ"القائد المؤسس"، وكأن تاريخ سورية قد بدأ بالذات من الانقلاب الذي قام به، بل تمتد إلى العبث بالتاريخ الوطني السوري. على سبيل المثال، يحدث ذلك من خلال تحويل قادة الثورة السورية الكبرى (1925 - 1927)، من قادة وطنيين إلى رموزٍ محلية وطائفية، بما ينسجم مع محاولة محو التاريخ وتقصير قامات كبرى فيه، لتأمين بروز عالٍ لقامة حافظ الأسد، ومن بعده بشار.
هناك طبقات أخرى أكثر عمقاً ورمزية، ربما يقدّم التحول الذي جرى على تمثالٍ شهير ليوسف العظمة مثالاً مهماً عنها. يوسف العظمة هو وزير الحربية الذي قاد معركة ميسلون ضد الغزو الفرنسي لدمشق عام 1920، واستشهد فيها، مثبتاً المقولة الشامية: "لا يدخلون إلا على جثثنا"، ممهّداً الطريق لـ25 سنة من المقاومة المستمرة للفرنسي في كل أرجاء سورية.
عرف السوريون تمثال يوسف العظمة للمرة الأولى عام 1938، وكان تمثالاً مشابهاً للتمثال الموجود الآن في ساحة المحافظة (ساحة يوسف العظمة)، وسط دمشق وقرب ساحة السبع بحرات. مع فارق مهم، التمثال الأول كان رافعاً سيفه، وأما الحالي الذي نُصب عام 2007، فسيفه موضوع في غمده.
للتمثال الأول قصة فريدة لن نطيل في تفصيلها هنا، ولكن مختصرها هو أن الجالية السورية في البرازيل، وفي ساو باولو تحديداً، هي من تبرعت لإنشائه وصُمّم في البرازيل وأُرسل إلى سورية في النصف الأول من عام 1938، وكان في استقباله كل من شكري القوتلي (وزير الدفاع آنذاك)، وفائز الخوري وفخري البارودي، النائبين عن دمشق في المجلس النيابي، وعادل العظمة مدير وزارة الداخلية.
المفارقة التاريخية هي أن التمثال شاهر السيف، نُصب واحتُفي به رغماً عن الفرنسيين، وخلال وجودهم بصفة انتداب على الأرض السورية. أما التمثال الحالي ذو السيف الموضوع في غمده، فنُصب عام 2007 بعد شهر العسل بين بشار الأسد والدول الغربية، خاصة فرنسا التي تولى رئيسها جاك شيراك مهمة تأمين حملة علاقات عامة لبشار الأسد في الدول الغربية عبر استقباله في الإليزيه.
الطبقة التالية هي الهوية المعمارية لدمشق خاصة، لأن نظام الأسدين لم يُعِر اهتماماً جدياً لأي من المحافظات السورية على مستوى التنمية.

وربما يمكن للمرء اليوم أن ينظر "إيجاباً" إلى هذه المسألة، لأن قلة اهتمام الأسدين بتنمية المناطق السورية، قد رحمتها في كثير من الأحيان من العبث المنظم الذي طاول دمشق؛ فإلى جانب السرقة الممنهجة لآثار المدينة والبلاد كلها، في عملية "تعفيش" كبرى استمرت طوال نصف قرن، فإن إصرار الأسدين على مركزة كل دوائر الدولة ضمن العاصمة دمشق، حوّلها إلى سجن كبير بأبنية إسمنتية باهتة وقبيحة. عملية التمركز هذه كانت تهدف قبل كل شيء، إلى تمرير كل شرايين البلد الاقتصادية تحت نظر المركز وتحكمه، فيتيح له ذلك امتصاص أكبر قدر ممكن منها. في حين تلجأ كل الأنظمة التي تحترم تراث بلدانها إلى الحفاظ على المدن القديمة وترميمها باستمرار، مع بناء مدن موازية وظيفتها استيعاب النمو السكاني، وتأمين الوظائف الإدارية والتنظيمية والخدمية، أو إيجاد حلول إبداعية بين هذه وتلك، تحافظ على التراث وتؤمن الخدمات.
يُعبّر كل من ساحة السبع بحرات، ومشروع "وردة أسماء"، تعبيراً مكثفاً عن مفاهيم "الحداثة والتطوير" من وجهة النظر عديمة الذوق للسلطة السابقة؛ فالسبع بحرات ساحة تاريخية مقابلة للمصرف المركزي السوري، وتمثل جزءاً من تاريخ المدينة وهويتها الشامية الممتدة من البيوت القديمة إلى وسط العاصمة. نسفتها أسماء الأسد قبل أكثر من سنة بقليل، وأعادت تصميمها لتظهر معدومةَ الروح. كُسرت الاستدارة الطبيعية للبحرة، الراسخة في وجدان الدمشقي، وتحولت إلى مستقيمات حادة هندسية تجعل من البحرة فكرة مجردة ومشوهة، وشبيهة إلى حد بعيدٍ بتنظيراتها وتنظيرات بشار الأسد المستمرة، وحربهما الشعواء في إعادة تعريف المصطلحات، انطلاقاً من ضرورة "تعليم الشعب الجاهل".
كذلك الأمر مع مشروع "وردة دمشق"، أو "وردة أسماء"، كما يُطلق عليه السوريون، وهو مشروع غريب كل الغرابة وقبيح أشد القبح، أُنشئ عبر سنوات مكان مدينة المعارض القديمة، التي شكلت مع أغاني فيروز جزءاً من هوية سورية طوال عقود. "وردة أسماء" هي وردة إسمنتية ضخمة عديمة الوظيفة، وعديمة الجمالية، تعيد تأكيد الطريقة التجريدية المنفصلة عن الواقع التي سعت السلطة إلى فرضها على دمشق، وعلى السوريين.
الطبقات التي أشرنا إليها هنا، يمكن النظر إليها بمجموعها على أنها الطبقة الأولى فقط التي يحتاج السوريون إلى إزالتها عن وجه بلادهم. أما الطبقات الأخرى الأعمق، النفسية والفكرية والاجتماعية، فذلك حديث آخر أكثر عمقاً وهولاً في آن.

المساهمون