دفاتر فارس يواكيم: رشدي أباظة... الفتى الأول ونسيج مصري إيطالي

01 ابريل 2025
رشدي أباظة وصباح (فيسبوك)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- مسيرة فنية متميزة: بدأ رشدي أباظة مسيرته في السينما المصرية بعمر 21 عاماً، وشارك في 156 فيلماً، منها أعمال مقتبسة عن روايات لنجيب محفوظ وطه حسين. تميز بأدواره المتنوعة رغم عدم دراسته للتمثيل، وعمل مع مخرجين كبار مثل صلاح أبو سيف.

- حياة شخصية وعلاقات: تزوج خمس مرات، وأنجب ابنته الوحيدة من زوجته الثانية. كان محبوباً ومتواضعاً، وكون صداقات قوية مع نجوم مثل عمر الشريف، وكان شغوفاً بالبلياردو والسهر.

- الوفاة والإرث: توفي في 1980 أثناء تصوير "الأقوياء"، تاركاً إرثاً فنياً كبيراً في السينما المصرية، حيث يُعتبر من أبرز نجوم القرن العشرين.

بين المسرح والإذاعة والموسيقى، قضى فارس يواكيم (1945، مصر) عقوداً من حياته مواكباً ومؤرّخاً ومشاركاً في أبرز محطات المشهد الفني العربي في القرن الماضي، وشاهداً على التحوّلات في عالم الفن. تنشر "العربي الجديد" مذكرات يواكيم مع أبرز الفنانين والمنتجين والمخرجين والصحافيين العرب، مستعيدة محطات شخصية ولقاءات مع هؤلاء في القاهرة وبيروت وباريس، وغيرها من العواصم

كان رشدي أباظة المرشح الأول الذي اختاره المخرج البريطاني ديفيد لين ليؤدي دور الشريف علي في فيلم "لورنس العرب". لكن المخرج غيّر رأيه بعدما التقى عمر الشريف، فآل إليه الدور الذي كان بداية انطلاقته على صعيد السينما العالمية. وقد سبق أن شارك رشدي أباظة في أفلام عالمية صورت بعض مشاهدها في مصر، لكنها كانت مشاركات محدودة لا تلقي أضواء على الممثل.
كان الفيلم الأول "وادي الملوك" الذي أنتج سنة 1954. في هذا الفيلم كان رشدي أباظة بديل doubleur النجم روبرت تايلور. في المرة الثانية، بعد سنتين، شارك رشدي أباظة بدور ثانوي صغير في فيلم "الوصايا العشر" الذي أخرجه سيسيل ب. دو ميل، وتولى بطولته شارلتون هستون ويول براينر وإيفون دو كارلو. أدّى رشدي أباظة دور رجل عبراني من أتباع مذهب "عجل الذهب". وكان من الممكن أن يغدو نجما عالميا، فهو وسيم الطلعة، بهيج الحضور، يمتلك الموهبة اللازمة، ويتقن عدة لغات، منها: العربية والإيطالية والفرنسية والإنكليزية.   
لغة دانتي أخذها عن أمه الإيطالية. أما الفرنسية بما هي لغة أجنبية أساسية، والإنكليزية لغة أجنبية ثانية، فقد تعلمهما في مدرسة سان مارك بالإسكندرية، وكان أبوه قد انتقل للإقامة فيها قادما من المنصورة التي ولد فيها رشدي سنة 1926. الطريف أن مدرسة سان مارك تقع على بعد خطوات من بيت يوسف شاهين، الذي هو من مواليد العام نفسه كما رشدي، وقد أمضى سنة دراسية في هذه المدرسة، وقيل سنتين، قبل أن ينتقل إلى فكتوريا كوليدج. ومن الجائز أن الطفلين رشدي ويوسف تزاملا على مقاعد الدراسة. ولم يتسنَّ لي سؤال أحدهما فلم أملك جوابا بصدد هذا الاحتمال. 
كان رشدي أباظة في الحادية والعشرين من عمره حين بدأ العمل ممثلا في السينما المصرية. وقد دخل فضاء المهنة من الباب الواسع. في أول فيلم "المليونيرة الصغيرة" الدور الرجالي الأول أمام فاتن حمامة. كان الفيلم من إخراج كمال بركات، الذي أخرج فيلما ثانيا ثم هاجر من مصر إلى المغرب وأقام فيها وعمل في ميدان توزيع الأفلام. وفي السنة ذاتها، 1947، بدأت مسيرة رشدي أباظة الممثل الذي أصبح لاحقا، أحد نجوم السينما المصرية. لم يكن قد درس التمثيل في معهد، لكن موهبته الفطرية كانت كافية. 
كان فيلم "الأسطى حسن" نقطة تحول في مسيرة رشدي أباظة. في هذا الفيلم الذي أخرجه صلاح أبو سيف سنة 1952 ظهر رشدي أباظة الممثل المتمكّن، إلى جانب فريد شوقي وهدى سلطان. ومع هذين النجمين، برز بعد سنتين في فيلم "جعلوني مجرما" (إخراج عاطف سالم)، وفيه غنّت هدى سلطان رائعة السنباطي "إن كنت ناسي أفكّرك". ثم "ارحم دموعي" (إخراج بركات) مع فاتن حمامة وشكري سرحان ويحيى شاهين، فحانت انطلاقة النجم رشدي أباظة.  
بلغ عدد الأفلام التي أدّى فيها الدور الرجالي الرئيسي 156 فيلما. عمل بإدارة كبار مخرجي السينما المصرية: بركات وصلاح أبو سيف وعز الدين ذو الفقار وعاطف سالم وكمال الشيخ وسعيد مرزوق وسواهم. والطريف أنه طول مسيرته الفنية لم يعمل مع المخرج يوسف شاهين إلا في فيلم "جميلة" فقط. (وكان في السابق، سنة 1950، شارك بالتمثيل في فيلم "امرأة من نار" من إخراج جياني فيرنوتشو، الإيطالي المولود في مصر، وكان يوسف شاهين فيه مساعد المخرج، قبل أن يتحوّل في السنة ذاتها إلى الإخراج).
اشتهر رشدي أباظة بأدوار الفتى الأول، في وقت كانت السينما المصرية تعرف جيلا متميزا من أقرانه، مثل كمال الشناوي وشكري سرحان وأحمد مظهر وعمر الشريف. لكنه لم يبقَ أسير هذا النمط تماما، بل تميّز بأدوار مختلفة وشارك في العديد من الأفلام المقتبسة عن روايات لكبار الأدباء، الأمر الذي يعني أنه جسد شخصيات من هذه الروايات، لا تتشابه في ملامحها، ولا هي تقليدية في طباعها، ولا تكفي وسامة الممثل لضمان نجاحه إذ تتطلب موهبة في الأداء. والأمثلة كثيرة: "الحب الضائع" إخراج بركات عن رواية طه حسين. ومن روايات إحسان عبد القدوس: "أين عقلي" (عاطف سالم) "في بيتنا رجل" (بركات) "لا أنام" (صلاح أبو سيف) "شيء في صدري" (كمال الشيخ). كما كان بطل فيلم "السراب" (مع ماجدة ونور الشريف) و"الطريق" (مع شادية وسعاد حسني) وكلاهما مقتبس من روايات نجيب محفوظ. أما "رد قلبي" و"إني راحلة" فمن روايات يوسف السباعي وإخراج عز الدين ذو الفقار. ومن روايات يوسف إدريس: "لا وقت للحب" مع فاتن حمامة و"العيب" مع لبنى عبد العزيز. ناهيك عن "أريد حلا" عن قصة حُسْن شاه وبإخراج سعيد مرزوق وبطولة فاتن حمامة. فضلا عن أنه لمع في أفلام ليست مقتبسة من روايات الأدباء، لكن أداءه فيها ظل في بال المشاهدين مقترنا بالإعجاب، مثل دوره في "المراهقات" مع ماجدة (إخراج أحمد ضياء الدين) و"إمرأة في الطريق" مع هدى سلطان وشكري سرحان (إخراج عز الدين ذو الفقار).  
كما أن رشدي أباظة شارك بالدور الرئيسي في أفلام كوميدية مثل "الزوجة 13" مع شادية، و"آه من حواء" مع لبنى عبد العزيز و"إسماعيل يس في البوليس"، والأفلام الثلاثة من إخراج فطين عبد الوهاب، المتميز بإخراج الأفلام الكوميدية.
كان رشدي أباظة يحب لبنان، وكثيرا ما زاره بقصد الاستجمام. وهو أقام في بيروت في أواخر ستينيات القرن الماضي، حين  انخفض عدد الأفلام المنتجة في مصر، في أعقاب نكسة حرب يونيو/حزيران 1967، ومكث فيها نحو سنتين، تخللتهما رحلات إلى القاهرة للتمثيل في بعض الأفلام. لكنه عاد للاستقرار نهائيا في القاهرة سنة 1970، وفي هذه السنة أدّى دور البطولة في تسعة أفلام مصرية. وبرغم إقاماته في بيروت، وصداقاته الجمّة، ونجوميته المتألقة، لم يشترك في السينما اللبنانية إلا في فيلمين "بدوية في باريس" (1964) و"الضياع" (1971) وكلاهما من إخراج محمد سلمان. شاركته سميرة توفيق وعبد السلام النابلسي بطولة الفيلم الأول. أما الفيلم الثاني فضم إليه سميرة أحمد وناهد شريف ونادية الجندي وعماد حمدي والممثل الفلسطيني غسان مطر. وكنت كاتب السيناريو والحوار الأساسي لفيلم "الضياع"، ثم أدخل عليه مخرجه مشاهد استحدثها وصاغ حواراتها. 
توجهت ذات يوم إلى فيلا الداعوق في حي عين المريسة حيث كان يجري تصوير بعض مشاهد فيلم "الضياع". في الحديقة وجدت رشدي أباظة في نقاش ساخن مع أحد عمال الكهرباء. ما إن رآني حتى قال "أهو ده اللي ح يفتي". لم أفهم مغزى العبارة، ففسر لي النجم سبب النقاش الخلافي. قال: "حضرته مصمم أن أصل عيلتنا كردي، عشان هو كردي. ومع احترامي الكامل للأكراد فأنا مصري ابن مصري ومن أصول قوقازية. حضرته ح يعرف عن عيلتنا أكتر مني!". وشرح للعامل أنني على اطلاع واسع، وطلب مني أن أبدي رأيي. قلت: "طبعا الأستاذ رشدي عنده الحق. ولست أزعم أنني أعرف عن أسرته أكثر مما يعرف هو. سوى أنني كنت قد سمعت من الشاعر الكبير عزيز أباظة، أن الأسرة من أصول قوقازية، ومن أبخازيا بالذات. وحين وفدوا إلى مصر في القرن الثامن عشر استقروا في الوجه البحري في محافظة الشرقية". وكان المصريون يقولون عنهم "الأبخازيين". ثم تمّ حذف حرف الخاء للتخفيف فأصبحوا "الأبازيين"، ثم استقرت العائلة على اسم أباظة.  
ولا أنسى صورة حيّة لرشدي أباظة رأيتها ليلة 28 سبتمبر/ أيلول 1970 في بيروت. كنت مدعوا إلى مسرح شوشو ليلة العرض الأول لمسرحية "اللعب ع الحبلين"، وكان رشدي أباظة وتحية كاريوكا ضمن الحضور. في منتصف الفصل الثاني حدثت جلبة في القاعة التي أخذت تفرغ تدريجيا من الجمهور. كان الخبر الناعي قد بلغ المسامع "لقد توفي الرئيس المصري جمال عبد الناصر". رأيت رشدي أباظة ينهار وقد أجهش بالبكاء، ومثله تحية كاريوكا.  
كان رشدي أباظة عاطفيا للغاية. يضحك من القلب ويبكي بحزن صادق. يغضب سريعا ويهدأ سريعا لأن غضبه سطحي. محب للحياة حتى الثمالة. إذا سهر امتدت سهرته إلى الفجر، وإذا شرب الويسكي لا يكتفي بكأس أو باثنتين. لا يتعامل مع أحد بصفته النجم المشهور، بل بتواضع الإنسان البسيط، يصافح المخرج بالحرارة نفسها التي يرحب بها بأصغر عامل في الاستوديو. صديق الزملاء من الوسط الفني، وزميل لعب البلياردو مع عمر الشريف وأحمد رمزي. 
حتى في زواجه كان سخيا. تزوج خمس مرات، أوّلها من الفنانة تحية كاريوكا عام 1952، وقد استمرت الزيجة ثلاث سنوات فقط. ثم تزوج من حسناء أميركية تعيش في مصر تدعى بربارا ، وكانت زوجة صديقه المغنّي بوب عزام (الذي اشتهر بأغنية "يا مصطفى يا مصطفى") ووقعت في غرام رشدي، لكنه رفض أن يتزوجها إلا إذا طلقها صديقه. وهذا ما حدث، فأنجبت ابنة رشدي الوحيدة (قسمت)، وقد دام هذا الزواج أربع سنوات. ثم تزوج من الفنانة سامية جمال سنة 1962 وكانت الزيجة الأطول إذ دامت قرابة ثمانية عشر عامًا ثم انفصلا، لكنها كانت لا تزال على عصمته حين تزوج من المطربة صباح، لكن هذا الزواج الفجائي لم يصمد سوى أسبوعين فقط. أما نبيلة أباظة فكانت زوجته الخامسة، وهي ابنة عمه وقد عقد قرانه عليها قبل وفاته بسنتين.

كان "الأقوياء" آخر أفلامه، شارك فيه سنة 1980 مع نجلاء فتحي ومحمود ياسين، وهو من إخراج أشرف فهمي. وقد توفي رشدي أباظة ولم يكن قد أكمل تصوير مشاهده كافة. ولم يكن من الممكن إلغاء هذه المشاهد لأن ذلك كان سيحدث خللا في البناء الروائي. لذلك اضطر المخرج إلى الاستعانة بممثل آخر لاستكمال هذه المشاهد، وقد خضع لماكياج مماثل وارتدى الملابس ذاتها، وحاول الإلقاء بصوت مشابه لصوت رشدي أباظة قدر الإمكان. ولجأ المخرج إلى حيلة تصويره من ظهره ما عدا لقطتين أو ثلاث لقطات للضرورة الفنية، وحرص المخرج أيضا على أن تكون هذه اللقطات عن بُعْدٍ نسبي. ولدى عرض الفيلم قرأ الجمهور تنويها في مطلع الفيلم ذُكر فيه "كانت وفاة الفنان الكبير رشدي أباظة أثناء إنتاج الفيلم وبعد أن قطع التصوير معظم مراحله، حدثا قهريا أمكن التخفيف من آثاره بالاستعانة بجهود الفنان الكبير صلاح نظمي في الحلول محله في أداء المشاهد القليلة المتبقية مما ساعد على عدم المساس بالسيناريو الأصلي". ويذكر أن الممثل فكري أباظة، الأخ الأصغر لرشدي، أدّى دورا في الفيلم. وكانت مشاركته السينمائية الأولى في فيلم "البنات لازم تتجوز" مع رشدي أباظة ومع نجلاء فتحي أيضا. وكان الفيلم من إخراج علي رضا.  
في السابع والعشرين من يوليو/ تموز 1980، توفي رشدي أباظة عن عمر ناهز الرابعة والخمسين. وشاء القدر أن يعيش أخوه فكري عددا مماثلا من السنوات (1950- 2004). 

المساهمون