"دافنينو سوا" في "روتردام الـ54": المرويّ يعكس وقائع والتوليف لحظة بوح

07 فبراير 2025
"دافنينو سوا": طبيعةٌ تنتفض على صقيعها وأناسٌ يبحثون عن منفذ (الملف الصحافي)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- فيلم "دافنينو سوا" يعكس الانهيار في لبنان من خلال سرد هادئ للتحديات النفسية والاجتماعية، ويبدأ بمشهد من برنامج "الأدب الشعبي في لبنان" لتسليط الضوء على أهمية الحكي والاستماع.
- يتناول الفيلم أسئلة حول الهوية والانتماء والهجرة، ويستخدم فصل الشتاء كرمز للصقيع الذي يضرب النفوس، مع الإشارة إلى مثل شعبي يعكس العلاقات الإنسانية المعقدة.
- يعرض الفيلم قصصاً عن القهر والخيبة، ويتناول أحداثاً مثل "انتفاضة 17 أكتوبر" وتفجير مرفأ بيروت، ليعبر عن التمزق الداخلي في لبنان.

 

في دقائق قليلة أولى من "دافنينو سوا" (2025)، للبنانيّين سليم مراد وجهاد سعداة (الإخراج لمراد، التأليف والمونتاج لهما معاً)، يُحدَّد ما يُمكن اعتباره ركيزة درامية لمُنجز وثائقي، يغوص في أحوال بلدٍ منهار، ويجهد في معاينة خرابٍ حاصل في نفوسٍ وتفكير ومشاعر، والخراب هذا، في جزءٍ أساسيّ منه، نتاج انهيار البلد برمّته.

أول تحديد (بداية الفيلم) فقرة من برنامج "الأدب الشعبي في لبنان" (تلفزيون لبنان) مع سلام الراسي (غير مذكورة معلومات عن البرنامج، وعن الحلقة تلك)، كاشفاً فيها أهمية الحكي والاستماع إليه في آنٍ واحد (لاحقاً، تُستعاد فقرة ثانية لتأكيد هذا مُجدّداً، بكلامٍ مختلف قليلاً). أمّا التحديد الثاني، اللاحق بالأول بعد دقائق قليلة، فيتمثّل بتساؤل، يُستشفّ منه مرارة وقلق ينغلان في ذات مخرج (مراد)، سيكشف سعادة ورَيا الخوري لاحقاً أنّ فيهما شيئاً من هذين القلق والمرارة: "كيف يمكننا أنْ نفهم بلداً كلبنان في هذه اللحظة من تاريخه" (تُقال الجملة بالعامية اللبنانية).

إذاً، إتقان الحكي وعظمة الاستماع إليه تسبقان (أو ربما تتكاملان مع) رغبة في إدراك كيفية فهم بلدٍ معطّل ومكسورٍ، وناسه معطوبون وتائهون. هذان التحديدان، إذْ يتمدّدان بإيقاع هادئ في سرد ارتباكات وتساؤلات ومواجع وقلاقل، يبدوان كأنّهما "يُسيّران" الأصدقاء الثلاثة في حقول ألغام ومطّبات وآلام، والأقسى (هذا رأي شخصي) كامنٌ في أنّ الأسئلة معلّقة، والإجابات غامضة.

أمّا الأسئلة فكثيرة، تتوزّع على السياسة والاجتماع والاقتصاد والمشاعر والعلاقات والهوية والانتماء والهجرة والخوف والخراب والحبّ والموت والفقدان والطبيعة، وهذه الأخيرة تعكس شتاءً وثلوجاً وبرداً، فالتصوير (ثمانية أيام) مترافق وفصلاً شتائياً، ربما لأنّ المقصود بذلك إشارة عميقة إلى أنّ الصقيع ضاربٌ في طقس وفضاء، كما في أرواح ونفوس وأجساد.

"دافنينو سوا" (دَفنّاه معاً) مثلٌ شعبيّ، تروي إحدى الشخصيات حكايته المختزلة بعدم إمكانية الاحتيال على من يُشارك في عملٍ ما. أي أنّ شخصين يرتكبان فعلاً، يستحيل على أحدهما أنْ يخدع الآخر عنه، فالآخر سيقول له فوراً: "دافنينو سوا". والمثل هذا غير محصورٍ في عنوان فيلمٍ، يُعرض للمرّة الأولى في الدورة الـ54 (30 يناير/كانون الثاني ـ 9 فبراير/شباط 2025) لـ"مهرجان روتردام السينمائي الدولي"، يوثِّق حكايات لبنانية عن مصائب وتحدّيات وانكسارات. فالمثل/العنوان يعكس شيئاً من "نفسيّة" أناس و"تفكيرهم"، إذْ إنّ الاحتيال والتكاذب والخديعة سمات غالبية ساحقة من سلوكٍ وتواصل وعيشٍ.

سليم، بُعيد استماعه إلى حكاية المثل، يسأل صديقه جهاد: تُرى، ما الذي "دفنينوا سوا"؟. هذه إضافة إلى التحديدين السابقين. كأنّ الثلاثيّ، بمثابرته في استكمال مشروع غير مكتوب منذ البداية، يواجِه ذاته بمواجهته أناساً يروون تفاصيل من "المصيبة" اللبنانية: عنصرية، رصاص عشوائي، فقر مدقع، إيمان طاغٍ، أمراضٌ تُنهي حيوات، وبعض أصحاب تلك الحيوات عاجزٌ عن تسديد تكاليف علاج. الأمكنة المختارة للقاء أفرادٍ، يروون تلك التفاصيل/الحكايات، تكشف فقراً، وبعضها ينغلق على نفسه في طبيعة يُفترض بها أنْ تكون خلاّبة، لكنّ التصوير (جهاد سعادة أساساً) يكتفي غالباً بلقطات مُقرّبة، تعبيراً عن ضيقٍ واختناق.

 

 

من البقاع إلى الشمال فبيروت، حكايات "دافنينو سوا" تتشابه في مسألتين اثنتين: كمٌّ هائلٌ من قهر وخيبة رغم معاندة وتحدٍّ (أو ربما وهم معاندة وتحدٍّ)، وموتٌ يتجوّل بين الكاميرا والنصّ والمرويّ، ما يدفع بمراد وسعادة إلى نقاشٍ مستتر ومُقلّص عن معنى تصوير أناسٍ يموتون قبل إنجاز الفيلم. كأنّ المغادرة الجسدية تتساوى ومغادرة معنوية تتمثّل إمّا بهجرة وإمّا باغتراب داخلي. ورغم أنّه مشغول بتقنية توثيقية تقليدية شكلاً، يتلاعب توليفه في كيفية تمرير المُراد قوله، عبر فصول (ثمانية، وخاتمة)، وفي ثنايا سرديات، وعبر كلام للأصدقاء الثلاثة، سعادة ومراد والخوري.

إلى الأسئلة المعلّقة والإجابات الناقصة، هناك "انتفاضة 17 أكتوبر" (2019)، والتفجير المزدوج لمرفأ بيروت (4 أغسطس/آب 2020). لحظتان تتناقض إحداهما مع الأخرى، فالأولى تمتلك حلماً سيُقتل سريعاً، والثانية تُعلن لأصحاب الحلم الموت المؤكّد للحلم هذا. البوح الذاتي الحميم لكلّ واحد من الأصدقاء الثلاثة يُقال بنبرةٍ غير مناسبةٍ لسرد حكاية في فيلمٍ توثيقي، لكنّها ملائمةٌ جداً لما يصنع تلك النبرة والصوت: غليانٌ داخلي مكبوت من دون اكتمال كبته، ومخنوق من دون انفجار أخير.

بوحٌ يُشبه ما يقوله آخرون وأخريات، وبعض القول مشترك، فالحاصل في بلدٍ يُصيب كثيرين وكثيرات، والتمزّق يكشفه فيلمٌ (105 دقائق) يكتفي بالقليل والبسيط والعادي شكلاً، لانهماكه في تصوير ما يُظنّ أنّه إجابات تُعين على فهم مطلوب. الاكتراث بأولوية المرويّ، وبما يتضمّنه من تساؤلات مُنهِكة وقاسية، يُشكّل فيلماً يشهد على عفن مُتفشٍ في بلدٍ وأناسٍ ومسالك.

"دافنينو سوا" اختبار بصريّ يبحث في بلدٍ عن ناسه، ويسعى إلى كشف مستورٍ/معلوم، مع أنّ معظمَ المستور معلومٌ، لكنّ الصمت خانقٌ.

المساهمون