"خذ نفساً"... حين يكون التاريخ جرحاً مفتوحاً

17 فبراير 2025
من أعمال المعرض (موقع المتحف)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- يركز معرض "خذ نفساً" على التنفس كحق إنساني وجسر بين الذات والعالم، مستعرضاً تاريخ الصراعات المرتبطة به، مثل الحروب والتدهور المناخي، من خلال أعمال فنية تعكس هذه القضايا.

- يتناول المعرض تأثير الحروب على البيئة عبر مفهوم "العنف البطيء"، موثقاً الاحتلال السمعي والاختناق الجماعي، كما في أعمال لورانس أبو حمدان وفورنسيك أركيتيكتشر.

- يربط المعرض بين الاستعمار وإبادة اللغات الأصلية، مسلطاً الضوء على أهمية الحفاظ على الذاكرة الثقافية، من خلال أعمال تبرز نضال النساء في حماية البيئة.

"خذ نفساً" (Take a Breath) هو عنوان المعرض الذي يستضيفه المتحف الأيرلندي للفن الحديث (IMMA) حتى 17 مارس/آذار المقبل. تطرح التظاهرة سؤالاً محورياً عن طبيعة التنفس، ليس بوصفه عملية بيولوجية فحسب، بل بوصفه حقاً إنسانياً وفعل مقاومة وجسراً بين الذات والعالم. ينطلق المعرض من فكرة أن التنفس، ذلك الفعل البسيط الذي نكرّره آلاف المرات يومياً، يحمل في طياته تاريخاً من الصراعات، من الحروب والاستعمار، وحتى التدهور المناخي الذي نعايش نتائجه الكارثية اليوم.
يبدأ مسار العرض مع عمل الفنانة الإيطالية أليكس تشيشتي بعنوان "رحلة نفس واحد"، وهو تركيب يستكشف علاقة التنفس بالبيئة البحرية. من خلال لقطات غوص حر في بحيرة لولوين المقدسة عند شعب تاجبانوا في الفيليبين، إلى الغوص في شعاب توباتاها المرجانية، يربط العمل بين تلوث المحيطات وتآكل التنوع البيولوجي، مذكراً بأن كل نفس نأخذه مرتبط بصحة الكوكب. في غرفة أخرى، تعرض الفنانة الكوبية آنا مينديتا عملها "هرم الدفن". في هذا العمل، تدمج الفنانة جسدها الأنثوي بالطين، رمزاً للتوحد بين الجسد والأرض. "هرم الدفن" الذي يجمع بين الفيديو والتصوير، يُجسد الصراع من أجل البقاء في مواجهة القمع، سواء كان بيئياً أو اجتماعياً. وتقدم الفنانة الصربية مارينا أبراموفيتش في عملها "تحرير الذاكرة" أداءً يستنزف الجسد عبر تكرار الكلمات حتى الإرهاق، وكأنها تطهيرٌ للوعي من سموم العصر. لا يغيب البعد النسوي عن عمل الفنانة الأرجنتينية ميرسيديس أزبيلكويتا، التي تستحضر في نسيجها الجداري "بطاطس، أعمال شغب، وتخيلات أخرى" نضالات النساء عبر التاريخ، من "ثورات البطاطس" في أمستردام عام 1917، إلى حركات مناهضة العنف الجندري في أميركا اللاتينية. يشكل العمل نصباً لتضامن النساء عبر الزمن، فيصبح التنفس هنا رمزاً للصمود الجماعي.
ينتقل المعرض إلى تأثير الحروب في البيئة عبر مفهوم "العنف البطيء"، ذلك الدمار غير المرئي الذي يستفحل عبر عقود. وفي هذا السياق، يوثق عمل الفنان اللبناني لورانس أبو حمدان "تكييف الهواء" الذي قدمه لأول مرة عام 2020، الاحتلال السمعي للفضاء الجوي اللبناني الذي مارسته طائرات الاحتلال الإسرائيلي بين 2007 و2022. الخريطة المكونة من خطوط متدرجة تكشف كيف تحولت السماء إلى ساحة حرب صامتة، إذ يصبح الضجيج المستمر سلاحاً يخنق الحياة. أما عمل الفنان الجزائري عمار بوراس 24°3’55”N 5°3’23”E، فيذكرنا بإرث التجارب النووية الفرنسية في الجزائر. التسمية تشير إلى إحداثيات انفجار بريل النووي عام 1962، الذي خلف تلوثاً إشعاعياً لا يزال يؤثر بالسكان حتى اليوم. يجمع العمل بين الفيديو والتصوير، ويجسد قدرة الصورة على تمثيل التاريخ، خصوصاً حين يكون التاريخ نفسه جرحاً مفتوحاً.
لا يقلّ تأثير الغازات المسيلة للدموع فظاعة، كما يظهر في عمل المجموعة الفنية فورنسيك أركيتيكتشر "ثلاثاء الغاز المسيل للدموع" الذي يرصد استخدام السلطات الأميركية للغازات السامة لقمع المتظاهرين في بورتلاند. الفيديو المستند إلى تحليلات علمية، يكشف كيف تحولت الاحتجاجات إلى ميدان للاختناق الجماعي. في القسم الثالث من المعرض الذي يحمل عنوان "اللغة.. نَفَسُ الهُوية المهدورة"، تربط الأعمال بين الاستعمار وإبادة اللغات الأصلية. يقدم عمل الفنانة البريطانية سوزان هيلر "الفيلم الصامت الأخير" تجميعاً صوتياً للغات منقرضة أو مهددة، مثل لغة بلاكفوت في أميركا الشمالية. الأصوات التي تراوح بين الغناء وسرد القواميس، تذكيرٌ بأن كل لغة تموت تسحب معها جزءاً من تنوع البشرية. في المقابل، تُخلّد الفنانة الأيرلندية نيام مككان في عملها "ششش... أنا أبرد الليلة"، الكتابة الأوغامية الأيرلندية القديمة التي كادت تندثر تحت وطأة الاستعمار البريطاني عبر تركيب نيون يدمج الحروف مع رموز بصرية. العمل يشي بأن مقاومة الاستعمار لا تمر فقط عبر السياسة، بل أيضاً عبر الحفاظ على الذاكرة الثقافية.

يتعمق المعرض في التعبير عن التدهور البيئي عبر أعمال مختلفة، مثل عمل الفنان الأيرلندي جون جيرارد "عاصفة ترابية" الذي يقدم محاكاةً ثلاثية الأبعاد لعاصفة الأحد الأسود التي ضربت أميركا في ثلاثينيات القرن الماضي، مذكراً بأن استنزاف التربة لا يزال يتكرر اليوم في ظل التغير المناخي. أما الفنانة الهندية باميلا سينغ، فتوثق في عملها المكون من عشرات الصور الفوتوغرافية ويحمل عنوان "محتضنو أشجار الهيمالايا" نضال نساء حركة تشيبكو الهندية اللواتي احتضنّ الأشجار لوقف إزالة الغابات. الصور التي تقدمها الفنانة الهندية بالأبيض والأسود، تخلد لحظة تاريخية، إذ أصبح الجسد الأنثوي درعاً للطبيعة.
"خذ نفَساً" هو دعوة إلى التفكير في الهواء الذي نتنفسه: من يحصل عليه؟ ومن يسرقه؟ وكيف يمكن أن نحميه؟ وبرغم ثقل الموضوعات والقضايا التي يتناولها المعرض، إلا أنه لا يغرق في التشاؤم، بل يترك لنا أملاً ضئيلاً، ففي تنفسنا اليومي دليل على وجودنا وقدرتنا على المُقاومة والتغيير.

المساهمون