حين استعادوا ملح إخوتهم

03 فبراير 2025
من مشهد العودة إلى شمال غزة، 28 يناير 2025 (علي جادالله/الأناضول)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- عاد آلاف الغزيين إلى بيوتهم المدمرة في شمال قطاع غزة، مجسدين روح الصمود والتحدي، حيث يجمعون شتات أرواحهم وذكرياتهم لإعادة بناء حياتهم.
- كتب الشاعر محمود درويش عن هذه العودة في قصيدته "مأساة النرجس ملهاة الفضة"، واصفًا رحلة الفلسطيني الأبدية للعودة إلى وطنه، مما يعكس معاناة الفلسطينيين المستمرة.
- سار أكثر من 300 ألف غزي إلى بيوتهم المدمرة، حاملين أحلامهم وآمالهم في ترميم حاضرهم ومستقبلهم، في انتظار اليوم الذي يتوقف فيه غدهم عن تكرار مآسي أمسهم.

ليس ثمة شاعر آخر، ليكتب الإلياذة الفلسطينية سواه. ليس ثمة هوميروس آخر للفلسطينيين.
كان آلاف الغزّيين، أهلي هناك، الفقراء بما تيسّر من متاع، وبالقليل من الثياب، يعودون على أقدامهم، في ذلك المشهد القيامي الذي لا يتكرر سوى في قيامات نهايات العالم، وفي الملاحم والأساطير، وليس من سبت لهم هنا أو جمعة أو أحد، ليتقدّسوا في الكتاب، بل فجر الاثنين 27 يناير/كانون الثاني الماضي، حين عادوا.
لا تحليل سياسياً يكفي لفهم تلك العودة، والإحاطة بدلالاتها، ولا علوم سياسية ومراكز أبحاث، ولا حلقات درس أو نقاش وتحليل لما تقيأ به ترامب أو سواه، لنعرف أنهم وحدهم من يكتب السطر الأخير في حكايتهم، وعلى أرضهم وفي بيوتهم، أو ما تبقى منها.
وحدها الاستعارات الكبرى ما يرقى إلى مشهد الغزّيين ذاك، وهم يعودون جماعات وفرادى، آلافاً بل مئات الآلاف، من دمار تركوه في جنوبي قطاع غزة، إلى بيوتهم في الشمال الأكثر تعرّضاً للدمار منذ هيروشيما. 
كأنما يعودون إلى معنى البيت لا البيت نفسه، إلى ما تبقى منهم ليصبح خارجهم فيُظِلهم ويحمي ما تبقى من حياة فيهم، ويجمع كسورهم ويلمّها، زجاجهم فيعيد تشكيله، أرواحهم فيمنحها اسمها وصفتها كأعظم أرواح عبرت هذه الأرض منذ آدم المنفي إلى أرض الموت والقتل الذي لا ينتهي.
لقد "عادوا من آخر النفق الطويل إلى مراياهم"، كأنما شاعرهم محمود درويش الذي كتب تلك العودة المذهلة، التي تكاد لا تُصدّق، قبل أن تحدث بأكثر من ثلاثة عقود، قد رأى ما سيكون، كأنه وهو نبيهم قد كتب الحكاية كلها، وترك لهم دمهم وهو يُسفك على أرضهم، ليروي تفاصيل غربتهم بين الناس، مقتلتهم التي لا تنتهي، من أجل بلادهم التي آن لها أن تشبع من دمهم، فتعود إليهم ليناموا تحت ظل جدران بيوتهم في الصيف، تحت عرائش الدوالي والقطط التي تتثاءب نعسى تحت شمس أغسطس/آب، والماء يفور في التنور فينضج التين ويلمع الدمع الأخضر في زيتونهم، فيبتهجون بموسم زيت وفير يملأ خوابيهم وجِرارهم... وليعودوا أيضاً إلى "البسيط من الكلام"، إلى حياتهم مثل بقية البشر، مثل حيوانات الأرض وطيورها، مثل القطط التي تعود إلى أماكن سكناها، والكلاب وهي تذود عنها، إلى الحياة المبذولة للآخرين بيسر، لكل شعوب الأرض... سواهم.
كأنه كتب شيئاً فلم يُبقِ حرفاً لسواه ليكتب تلك العودة التي كأنها الله يرث خلقه وأرضه، فيسيرون إليه في الوديان وعلى الجبال ومن القرى والمدن ليقفوا أمام بهائه الجليل، وتحت عينيه اللتين هما نور يعشي الأبصار.

موقف
التحديثات الحية

كتب ذلك محمود درويش الذي يرى ما يريد، في "مأساة النرجس ملهاة الفضة"، تلك القصيدة التي لا تشبه سواها، ملحمة العودة والبدايات التي تتكرر ولا تنتهي، إذ على الفلسطيني وحده من بين كل مخلوقات الله على الأرض أن يظل يعود إلى بلاد تنأى كلما ظن أنها اقتربت، كأنها هي نفسها استعارة الفقد العظيم.
في اليوم الأول، الاثنين 27 يناير، كان أكثر من 300 ألف غزّي يسيرون على أقدامهم، لا يتعبون كما على الاستعارة أن تكون، لهفى ومسرعين، إلى ما تبقى من بيوتهم التي أصبحت ركاماً، بيوتهم التي هي مقابر، فإذا أزحت حجراً قد تجد قدماً لواحد من أهل البيت، التي هي أحلامهم وهي ترمم حاضرهم ومنازلهم التي ينزلون فيها ولا يصعدون إلى بيوتهم إلا شهداء أو مقطّعي الجثث... أيتها المقبرة الكبيرة التي لا تتوقف عن التوسع يا بلادي.
لم يحتاجوا يوماً إلى الفلسفة والنقد الحديث ليعرفوا أن البيت ليس هو المنزل، لم يحتاجوا إلى أدورنو ليعرفوا معنى الاغتراب في المدن الحديثة، ولا إلى هايدغر وحنة أرندت ليعرفوا معنى الشر الذي يدفعون ثمنه منذ ولدوا، فما حاجتهم ودمهم يعيد تعريف العالم والأشياء، وحدها الاستعارة ما أقاموا فيها، عندما "كانوا يرجعون ويحلمون بأنهم وصلوا"، أمس واليوم وغداً، فمتى يصلون أخيراً يا الله؟ متى يتوقف غدهم عن تكرار أمسهم، وهم يعودون على أقدامهم وراء دمهم المسفوك الذي يسبقهم إلى ما تبقى من بيوتهم؟ 
أنتظر رسائلك في الليل، يا الله، لأعرف.

المساهمون