"حقائق قاسية": عودة إلى العوالم المعهودة لمايك لي

10 فبراير 2025
ماريان ـ جان باتيست في "حقائق قاسية": شخصية سينمائية فارقة (الملف الصحافي)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- أسلوب مايك لي السينمائي: يُعتبر من روّاد الواقعية الاجتماعية، حيث يركز على الحياة اليومية للطبقة المتوسطة والعاملة، مع اهتمام بالتفاصيل والمشاعر الإنسانية.

- فيلم "حقائق قاسية": يتناول قضايا اجتماعية معقدة مثل الفقر والبطالة والعلاقات الأسرية، مع تقديم شخصية بانسي المعقدة التي تعاني من اضطرابات نفسية، مما يجعلها محور الفيلم.

- التفاعل والتساؤلات: يثير الفيلم تساؤلات حول تصرفات بانسي وتأثير أصولها ومشاكل طفولتها، مع نهاية مفتوحة تدفع المشاهدين للتفكير في طبيعة الشخصية.

رغم أنّ المخرج البريطاني المخضرم مايك لي ليس غزير الإنتاج، ولم يُنجز جديداً منذ ملحمته "بيترلوو" (2018)، مرّ جديده "حقائق قاسية" (2024)، منذ عرضه الدولي الأول في الدورة الـ49 (5 ـ 15 سبتمبر/أيلول 2024) لـ"مهرجان تورنتو" من دون تناول لائق أو اهتمام معتاد.

مايك لي أحد روّاد الواقعية الاجتماعية، بارع في تسليط الضوء على الحياة اليومية للطبقة المتوسطة والعاملة في بريطانيا، برصدٍ خاص للتفاصيل الدقيقة والمشاعر الإنسانية الصادقة والعميقة، مع ممثلين يتّسمون بأداء فريد. لم يَحدْ كثيراً عن خلطته المعتادة.

الفيلم لا يستكشف مناطق جديدة خارج حدود عالمه، كـ"بيترلوو" و"السيد تيرنر" (2014)، بل ينتمي إلى أعماله المعتادة، بمواضيع مُركّبة ومؤثّرة، تهتمّ غالباً بقضايا اجتماعية واقتصادية، ومشاكل الفقر والبطالة، والوحدة والعلاقات الأسرية المُعقّدة، والتقدّم بالسنّ، وغيرها ممّا أبدع فيه روائع كـ"أسرار وأكاذيب" (1996)، و"فيرا دريك" (2004)، رغم ميله أكثر إلى تقديم دراما نفسية خالصة.

يكاد يكون "حقائق قاسية" تنويعة على المواضيع السابقة، التي تعكس قسوة الواقع البريطاني وتعقيداته ومراراته، بطريقة ليست ثقيلة الوطأة، ولا توغل عميقاً في الحزن والأسى، ولا تطفح بمرارة هذا الواقع. إجمالاً، لم يتخلّ مايك لي عن أسلوبه الفريد، ولم يفقد قدرته على سرد قصة إنسانية عميقة ومُكثّفة وبسيطة. صنع فيلماً سيبقى في الذاكرة طويلاً، سلباً أو إيجاباً.

"حقائق قاسية" أقرب درامياً من بعض ما قدّمه في "أسرار وأكاذيب"، وتحديداً في "آمال عريضة" (1988) و"عالم آخر" (2010). مع ذلك، لا يُكرّر نفسه أبداً. في جديده، لا يهتمّ بتقديم أيّ نقدٍ اجتماعي أو اقتصادي أو سياسي، فتركيزه منصبّ على الذاتي/الشخصي، انطلاقاً من النفسي أساساً. إذ يتناول مشكلة التواصل الإنساني، والشعور بالوحدة والغربة في المجتمع، في إطار عائلة صغيرة، لأسباب مجهولة نسبياً.

اللافت للانتباه فيه تكريسه قدراته وطاقته لتقديم شخصية فارقة، ونموذج قلّما يُصادَف، أو يتكرّر تقديمه. بخلاف أفلام عدّة له، يُجزَم أنّ الفيلم لا يوجد من دون الشخصية الرئيسية: شخصية مقيتة وممجوجة، تبقى طويلاً في الذاكرة، لبشاعتها وجوانبها السلبية وغرابتها وتفرّدها. نجاحه في تقديمها يعود أصلاً إلى الأداء الرائع والمُقنع جداً للممثلة ماريان ـ جان باتيست لشخصية بانسي، الذي لا يقلّ أهمية عن أدائها شخصية هورتينيس، إحدى بطلات رائعته "أسرار وأكاذيب".

يتبدّى هذا بجلاء في سلوكيات بانسي، الدالّة جداً على شخصيةٍ تعاني اكتئاباً حادّاً أو اضطراباً نفسياً مجهولاً: وسواس النظافة، الانسحاب في المنزل، الانطواء على الذات، العزوف عن المجتمع، وربما كراهية البشر أو النفور والتقزّز منهم. وأيضاً: العراك الدائم مع الجميع. الأفدح صعوبة التواصل الطبيعي مع عائلتها الصغيرة، وابنها الوحيد، وزوجها الصبور الطيّب والمُسالم، وشقيقتها اللطيفة والحنونة والمُتفهّمة، وبنات الشقيقة، الودودات والعاجزات عن فهم خالتهن.

 

سينما ودراما
التحديثات الحية

 

يبدأ الفيلم باستيقاظها من حلم آخر مؤلم ومزعج، فتبدأ يومها بالصراخ والتحدّث بغضب، وبصوتٍ عال أمام كلّ شخصٍ، وأي شيءٍ. توبّخ زوجها وابنها وطبيبها العام وطبيبة أسنانها وعاملة السوبرماركت، والعاملة في محلّ للأثاث، وغيرهم. وهذا كلّ الوقت. شخصية غريبة ومسكينة، فريدة ورائعة، منفّرة ومزعجة، إلى درجة تصعب معها كيفية تصنيفها، والتفاعل معها. هذا دفع زوجها كورتلي (ديفيد ويبر) السبّاك إلى الصمت الدائم تعبيراً عن يأسه ومعاناته سنين مديدة، وانزواء ابنهما موسى (توين باريت)، العشريني العاطل عن العمل والبدين والصموت والمُكتئب، في حجرته معظم الوقت.

على نقيضها، تظهر شقيقتها شانتيل (ميشيل أوستن)، مُصفّفة الشعر العزباء، المحبوبة والصبورة والحكيمة واللطيفة. تقود عائلتها، وتمتلئ حياتها مع ابنتيها سعادةً وضحكاً ورقصاً وغناءً. أحياناً، تبدو بانسي أفضل بكثير في حضرة شانتيل، لكنّها تنفجر من حين إلى آخر. هل تمرّ بأزمة منتصف العمر؟ هل لبشرتها السمراء ولتحدّرها من أصول كاريبية دخلٌ في هذا؟ هل العطب في شخصيتها طارئ عارض، أو أصلي مُقيم؟ أسئلة كثيرة تطرحها الشخصية، ولا يُفسّرها مايك لي. حتّى عند تأزّم الأمر، بعد اضطرارها، بمناسبة عيد الأم، وبعد توسّل شانتيل لمرافقتها إلى مقبرة والدتهما، تعمّد لي ألا يكشف الكثير، مكتفياً بالتلميح إلى وفاة الأم قبل خمس سنوات، وربما عدم تجاوز بانسي هذا كلّياً. هناك أيضاً مشاكل في طفولتها ورعايتها شقيقتها، وتحمّلها المسوؤلية باكراً.

أهذه أسباب تركيبة شخصيتها تلك، وشكواها المرضية الوقت كلّه: صداع نصفي وتعب وآلام لا تحصى؟ أهذه الأعراض الجسدية نفسية أساساً، أم عضوية، أم تهيؤات؟ أهي صادقة حقاً، أم أنّها تعكس تعاستها الداخلية على الآخرين؟ التفسيرات كلّها معقولة ومُمكنة. بطريقة ما، يوصلنا لي إلى مرحلة اللايقين واللاعودة، مع بانسي التي تُحيّر في النهاية بين تصديقها والشفقة عليها وتجنّبها ومقتها.

المُثير للانتباه تعامل الجميع معها كأنّ تصرّفاتها عادية. كأنّها ليست بحاجة إلى اهتمامٍ صادق وفهمٍ واستيعاب، أو إلى علاج. هل انتبهوا من قبل ولم تستجب إليهم؟ عندئذ، تكون الحقيقة أقسى من كلّ ما سبق، ونكون إزاء مريضة لا تُدرك، أو ترفض الاعتراف بمرضها، وتأبى المساعدة.

طبعاً، لا يوضح مايك لي هذا. يترك مشاهدي فيلمه بحيرةٍ مع شخصيته الفريدة وسلوكياتها الشاذة، فاتحاً مجالاً لتساؤلات أكثر.

المساهمون