"حادث البيانو"... وسائل التواصل الاجتماعي في شبكة السخرية والعبث

11 أكتوبر 2025   |  آخر تحديث: 10:36 (توقيت القدس)
"حادث البيانو": نقد سينمائي لاذع لوسائل التواصل والصحافة (الملف الصحافي)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- يواصل المخرج كونتان ديبيو إنتاج أفلامه بسرعة، متميزًا بنصوص مبتكرة ونقد ساخر لأخلاق العصر، مستخدمًا شخصيات تجمع بين الواقعية والعجائبية.
- في فيلم "حادث البيانو" (2025)، يسلط الضوء على مؤثري وسائل التواصل الاجتماعي بأسلوب ساخر، مركّزًا على شخصية ماغالي التي لا تشعر بالألم، مما يعكس نقده لعالم التسلية والثقافة.
- تتطور الأحداث في مواقع محدودة، مع حوار ذكي بين ماغالي وصحافية، لكن الفيلم يعاني من نقص في التنوع والإيقاع، مما يؤثر على اهتمام المشاهدين.

يصنع الفرنسي كونتان ديبيو الذي تصل غزارته الإنتاجية في الأعوام الأخيرة إلى فيلمٍ أو فيلمين في السنة، أعمالاً تنهج المنوال نفسه، وترتكز على نصّ سينمائي عن فكرة مُبتكرة، مُحمّلة بنقد ساخر لأخلاق العصر، وظواهر العالم المعاصر الكثيرة والغربية، تُجسّدها شخصيات غير عادية، تمزج بين كونها واقعية وعجائبية وأسلوب إخراجي يتّسم بالعبث والفكاهة، ويُميّزه عن سائر المخرجين الفرنسيين.

في "حادث البيانو" (2025)، يُصوّب سهامه نحو مؤثّري وسائل التواصل الاجتماعي. ومع أنه ينطلق من حالة واقعية، لا يهتمّ بمعالجتها، كما دأبت السينما الواقعية على فعله. لا يُجسّد الواقع بصورته الحقيقية، بل يتناوله بخفّة وفكاهة ولامعقولية. هنا، لا يختار مؤثّراً بمواصفات منتشرة كالوباء على وسائل التواصل الاجتماعي، ليبني عليه فيلماً أخلاقياً جدّياً ومُندّداً، لا يرسمه بصورته المتعارف عليها، بل يميل في ذلك إلى المبالغة الساخرة، التي تبلغ حدّ العبث، ما يثير مشاعر صادمة أكثر. بعض الجمهور يكتفي بخفة الفيلم ومتعته. ينساه بمجرّد مُشاهدته. بعضٌ آخر يدفعه إلى تأمّل أعمق بعالم مُزيّف، يثيره الأسلوب غير العادي لديبيو في التعامل مع أمر غير عادي، بات جزءاً من واقع الناس.

تُقدَّم ماغالي (أديل إكزاركوبولس)، من البداية، فتاةً فظّة، لا تحترم الشخص الذي معها. تعامله كجرو يتبعها ويحقّق لها نزواتها العجيبة. لا يفصح الفيلم مباشرة عن الشخصيتين وعملهما، وعما إذا هما رفيقان أو زوجان أو أب وابنته. احتمالات وتوقّعات تفسّر فظاظة الفتاة بذراعها المكسورة، وعرجها القليل. مع كشف تدريجي، يتكئ على حوارات وعودة إلى الماضي بين مشهد وآخر، تتبيّن أن الفتاة مؤثّرة على وسائل التواصل، وتتمتّع بخاصية متفرّدة تجعلها من الأغنى والأشهر. ببلوغها 14 عاماً، بدأت ماغالي تنتبه إلى تأثير المؤثّرين. للمصادفة، ولدت في السنة نفسها لظهور الإنترنت، فباتت نجمة ويب، تجني ثروة طائلة من نشر محتوى صادم. تُعرِّض نفسها لصدمات: آلات حادة تجرحها، عجلات شاحنة تدعسها، نيران تحرقها. تُصوّر الحدث. هي لا تشعر بالأوجاع مهما تكسّر جسدها أو احترق. أصبحت شخصية عامة غامضة، بعد حادث خطر في موقع تصوير أحد فيديوهاتها العجيبة، إذْ تلقّت ضربةً على رأسها ببيانو، تعزل نفسها في جبال، مع باتريك (جيروم كوموندور)، مساعدها الشخصي، لاستراحة. لكنْ، مع اتصال صحافية لديها معلومات حساسة عن الحادث، ينقلب مجرى حياتها

. رسم ديبيو شخصية ماغالي، المؤثرة المُصابة بجروح بالغة (جسدياً ونفسياً)، بطريقته الخاصة الساخرة، مُتقصّداً المُبالغة، لتبدو "الضحية المثالية لوسائل الإعلام"، التي يُتلاعب بها من المحيطين. بتنقّلها السلس بين الواقع والعبث، أدّت إكزاركوبولس الشخصية بأفضل ما يكون. جعلها ديبيو، في تعاملها الثالث معه، تبدو شخصية كاريكاتيرية، تضع باروكة بشعر يابس، ومُقوّم أسنان طوال الوقت، يفرض عليها نطقاً مُعوجّاً: أي، شكلاً، كلّ ما يُسهّل التعرّف عليها فوراً، ويُميّزها بين آلاف المؤثّرين. عبر هذه الشخصية، المُضطربة عقلياً، مع محيط لا يقلّ جنوناً واضطراباً، أظهر ديبيو هذه الأوساط بدقّة. ليس اختيار خاصية بطلته بعدم الشعور بالآلام الجسدية إلا إشارة إلى عدم تحلّي هؤلاء بأي مشاعر أمام صرعة الشهرة والبقاء بأي ثمن في الواجهة. ديبيو، الذي لا يوفّر أحداً من هزئه ولا مهنة من هجائه اللاذع والشرير، وجدها مناسبة كذلك لضرب عصفورين بحجر واحد، مُقرّراً التعبير عن آراء له تجاه الصحافيين والفنانين، وعالم التسلية والثقافة. كأنه يخلق شخصياته لتكون صدى أفكاره.

وضع في طريق ماغالي الصحافية (ساندرين كيبرلان)، التي تبتزها لتطلب مقابلة تحقّق بها سبقاً صحافياً. تتلقّى الفتاة، بتذمّر شديد، الطلب، هي التي رفضت في مسيرتها الاحترافية الطويلة أي لقاء مع الصحافيين لاحتقارها إياهم. لكنّها تقبل مُرغمة. الحوار بين الاثنتين رائع بذكائه وإتقانه. فيه يطلق ديبيو العنان لسخريته من المهنتين. تلك اللحظات القليلة المتوترة بينهما من أفضل ما قدّمه "حادث البيانو". حوار ممتع بين أخذ ورد، كلعبة كرة الطاولة، مزج فيه ببراعة بين الجدّ والهزل، ليقدم نقداً شرساً للمهنتين، وصل إلى اتهام إحداهما الأخرى بتفاهة ما تُقدّمه إلى الناس، وعدم جدواه ولا أخلاقيته. وصل الحوار إلى ذروته بطرح سؤال عن الدافع وراء ركض المؤثّرين على المتابعة، رغم ما لديهم من أموال تكفيهم إلى آخر العمر.

تدور الأحداث، كعادة ديبيو مع شخصيات محدودة العدد وفي أماكن معدودة، في موقِعَين أو ثلاثة. هذا يُسهّل عليه إنجاز الأفلام بسرعة. مواقع التصوير هنا منزل فاخر يتناقض مع وحشية الشخصيات وابتذالها، في قرية تبدو معزولة، ورغم هذا يظهر ساكنان اثنان أهبلان ورائعان بهبلهما (يذكران بشخصيتين في "الفكّ السفلي"، 2020)، وبتجسيدهما لشكل الجمهور الغبي وسلوكه بملاحقته المشاهير؛ صالة رياضية فارغة تماماً يجري فيها الحوار؛ السيارة طبعاً. الطقس الثلجي ملائمٌ لزيادة التعبير عن برودة المشاعر للبطلة، ولكل الشخصيات.

مع لقطات ممتعة وذكية، وشخصيات تتنافس كلّ واحدة مع الأخرى بمقدار غرابتها وجنونها، جسّدها ببراعة الممثلون، كعهده بالإدارة الممتازة لديبيو، واختياره الصائب تماماً لممثلين لهم دور كبير في نجاح أفلامه، يحتاج "حادث البيانو"، رغم قصر مدّته (90 د.)، إلى سيناريو أغنى وأكثر تنوّعاً، وإيقاع أكثر حيوية، ما جعله يعاني، كفيلميه الأخيرين "يانيك" (2023) و"المشهد الثاني" (2024)، من إحساس بصعوبة الاحتفاظ بالاهتمام بالفيلم، لتفاوت ملموس في مستوى مشاهده وإيقاعه.

المساهمون