استمع إلى الملخص
- يمزج جيا بين الأسلوب الروائي والوثائقي في أفلامه مثل "لمسة من خطيئة" و"الخالدون"، ليعكس الواقع المعقد والتحولات السريعة في الصين وتأثيرها على الهوية الفردية والجماعية.
- يحظى جيا بتقدير عالمي وتكريم في مهرجانات دولية، رغم القيود في الصين، مما يتيح له التعبير عن رؤيته الفنية والاجتماعية بشكل أوسع.
بعمله على الذاكرة الجمعية عن التحوّلات الهائلة التي شهدتها الصين، يُعدّ جيا تشانغ كي أحد أبرز السينمائيين في بلده، لتناوله، في سينماه الوثائقية والروائية، طبيعة التغيّرات الاجتماعية والاقتصادية في الصين المعاصرة، وتداعياتها على المستويين الإنساني والبيئي.
فيلمه الأول، "شياو وو، نشال حرفي" (1997)، إعلان عن ولادة مخرج كبير، يُعبّر بجماليات جديدة، تمزج بين الروائي والوثائقي، عن المهمّشين والمتروكين من التحديث المحموم الذي اجتاح الصين في تسعينيات القرن العشرين. فيه، بدت دلائل على الحالة المعاصرة للصين، وتأثير الإصلاحات الاقتصادية التي قلبت مفهوم العلاقات الإنسانية، عبر قصة تدور في فينيانغ، البلدة التي نشأ فيها: نشالٌ على الطريقة القديمة، "محترم" من أبناء المهنة. في أفلامه العشرة اللاحقة، ظَهر تعاطفه، بل خشيته على الناس الأقلّ قدرة على التلاءم مع متغيّرات المجتمع الحديث، فبات هذا علامة مميزة لأعماله، ولأعمال الجيل السينمائي السادس الذي ينتمي إليه، وبينهم وانغ سياو شواي.
في "متعة مجهولة" (2002)، رسم أحوال تطوّر الشباب الصينيين من جيل الطفل الواحد، في العقود الأخيرة من القرن العشرين. أناسٌ يشهدون بلا حَوْلٍ انهيار القواعد التي حكمت أوساطهم وحوّلتهم إلى تائهين في العالم المحيط بهم. وفي "24 مدينة" (2008)، يشهد على توابع هدم مصنع مزدهر للدولة في تشنغدو، لتحويله إلى مجمّع سكني فاخر وضخم. يحاور ثلاثة أجيال وثماني شخصيات: عمّال سابقون، ومديرون تنفيذيون، وشباب محترفون، يروون قصصهم التي تصبح قصة الصين.
في "لمسة من خطيئة" (2013)، يمزج جيا تشانغ كي الواقعية الفنية الجديدة بالانتقام، عبر الكونغ فو، مع أربع شخصيات ترتكب أعمال عنف: عامل منجم غاضب من الفساد في قريته، ومهاجر (يطلق اسم مهاجر في الصين على من يعيش في منطقة غير منطقته الأصلية) ينجذب إلى ما يوفّره امتلاك سلاحٍ من إمكانيات، فيما تُدفع موظفة استقبال إلى أقصى حدٍّ من العنف من عميل مُتحرّش، وينتقل عاملٌ آخر من عمل إلى عمل. هذا الفيلم الذي عن السلطة أثار جدلاً في الصين، ومُنع من العرض.
جديده، "محاصرٌ بالمدّ"، خلاصة أفلامه، بمتابعته المصير الرومانسي لبطلته الدائمة زاو تاو، زوجته وممثلة أفلامه كلّها. ملحمة سينمائية غير مسبوقة تعبرها أفلامه، و25 عاماً من تاريخ بلدٍ في مرحلة تحوّل كامل.
"مهرجان فزول الدولي لسينمات آسيا" كرّم، في دورته الـ31 (11 ـ 18 فبراير/شباط 2025) جيا تشانغ كي بمنحه درع "الدراجة الذهبية"، واستعادة أفلامه العشرة، واختياره رئيس لجنة تحكيم المسابقة الدولية، فكان حوار معه باللغة الصينية، مُترجم إلى اللغة الفرنسية.
(*) أنت من جيل شهد التحوّلات السياسية والاجتماعية والاقتصادية في الصين. ألهذا تأثّرتْ أفلامك بها، بشدّة؟
بالنسبة إلى شخصٍ مثلي مولود عام 1970، تدور ذكريات طفولتي حول الثورة الثقافية، بين عامي 1966 و1976. فترة يُمكن تخيّل مدى تأثيرها على حياة الأفراد. ببلوغي تسعة أعوام، شرعت الصين بإصلاحات اقتصادية واجتماعية، فكانت التغيرات الاجتماعية. مؤكّدٌ أنّ تأثيرها مُباشر على الفرد والناس، ولم ينحصر في انقلابات وتحوّلات خارجية واقتصادية.
موضوع فيلمي الأخير مثلاً، وعنوانه بالإنكليزية "محاصرٌ بالمدّ"، يعني تماماً كيف كان وقع الأمر علينا، كأننا أُخذنا بموجةٍ، ولم نعد نحن القُوى الدافعة لمصائرنا. من هنا تأتي ضرورة عمل الأفلام، لنشارك ونبيّن هذه الأجواء، إنّه واقعنا وحياتنا.
(*) سينماك شهادة قيّمة على الواقع المُعقّد للصين في القرنين الماضي والحالي، هل تصنف أفلامك أفلاماً سياسية؟
لا أقدر القول إنّه يمكنني التقاط جانب سياسي في خلفية أفلامي. لكنني لا أتعامل مع الأشياء من وجهة نظر سياسية، وهذا ليس مركز ثقل أفلامي، ما يهمّني مراقبة الناس العاديين، وهم في مواجهة مصاعب الحياة، حينها يتبيّن سريعاً أنّ كلّ الضغوط التي يعانونها في الصين متأتية من الوضعَين السياسي والاقتصادي.
ما يهمّني طريقة تأثير هذه العوامل وكيفية التعامل معها فنياً، أقصد الموقف الفنيّ منها. في الواقع، هناك أسلوبان مغايران للتعامل مع الأمر: الاهتمام مباشرة بالتركيز على الجانب السياسي، وبذلك يتحوّل الفيلم إلى عمل سياسي، أو الالتفات إلى الناس العاديين، الواقعين تحت هذه التأثيرات، والاهتمام بهم، مع إدراك أنّ الخلفية ستكون سياسية.
هناك مخرجون يتناولون قصص أفراد من بيئات توصف بأنّها "معقّمة"، كبعض حكايات الحب، فتكون الشخصيات منفصلة تماماً عن الواقعَين الاجتماعي والسياسي، أي عن الحياة، ليس هذا ما يثير اهتمامي، أرغب بوضع سينماي في مركز الواقع والحياة.
(*) تهتم بالناس "الصغار"، أو المستضعفين الذين لا حول لهم تجاه ما يجري، وتجاوزتهم الأحداث.
يُطرح عليّ غالباً سؤال اهتمامي بالناس الصغار، إلى درجة أنّني بدأت أطرحه على نفسي. لكنْ، من هم هؤلاء الناس الصغار، الناس العاديون؟ أحقاً هم من أهتمّ بهم، أولئك الذين ليس في مقدورهم التحكّم بحياتهم، وليست لديهم وسيلة تُوجّه حياتهم، وهم على النقيض من السلطة، في الجهة المقابلة لها؟
(*) ترسم صورة للصين، حزينة بقدر ما هي مقلقة، قاتمة بقدر ما هي حنونة، فيها حنين إلى ما يذهب بلا رجعة، وأحياناً عنف يندفع إليه أناس يُرغمون عليه، كما في "لمسة من خطيئة" و"الخالدون" (2018). أتوافقني الرأي؟
للردّ على شأن العنف، سأتوقّف عند الفيلم الذي ذكرته. هذا حصل، ففي تلك الفترة في الصين، كانت هناك حوادث كثيرة مصبوغة بعنف كثير، فراودتني رغبة تناول الموضوع، هذا لا يعني أنّ الصين مجبولة بالعنف، إنّه واقعٌ كان في فترة مهمّاً إلى درجةِ إثارتِهِ اهتمامي، فتناولتُه حينها.
هكذا أعمل دائماً، أعتقد أنّ شخصية المخرج تُحدّد أسلوب تعامله مع أيّ قضية. مُقتنعٌ بأنّه عبر السينما يُمكن أنْ أتعامل مع مشاكل في بلدي وأعمل عليها، بما فيها من أناسٍ يواجهون كلّ أنواع المشاقّ في الحياة، وأحياناً يكون العنف بينها، حينها، أريد معالجة القضية بكلّ العمق الذي تستحقه.
في كلّ الأحوال، أرغب في مواجهة هذه المصاعب، والتعامل معها، كلّ مخرج في فترة ما يُحدّد ما يريد إبداء الرأي فيه، وطرحه، والأكثر أهمية للتعبير عنه، في كلّ فترة من تاريخ بلدي، أقرّر ما أريد العمل عليه.
(*) وماذا عن القتامة والحنين؟
القتامة؟ هذا الوصف يُلخّص ما يهمّني حقاً. إنّه أكثر ما يعنيني. هناك ما يُغرِق في العتمة، إذاً أوجّه عدستي إليه للإضاءة عليه؛ فالفنّ للتعبير عن التعاطف مع الناس، وعبر هذا التعاطف نحسّ بمعاناتهم.
(*) تثير أفلامك إحساساً بأنّ الصين التقليدية تختفي تدريجياً، كأنّ الحداثة أغرقتها، هذه الصورة شديدة الأثر، هناك أيضاً العزلة الاجتماعية والوحدة والآمال الصغيرة والخيبات الكبيرة. أفلامك، بما تُبديه من تحوّلات سريعة، تثير شعوراً قوياً كأنّ الصين التقليدية لم يعد لها وجود.
ربما يعود هذا إلى أنّ كل شيءٍ يحدث بسرعة قصوى في الصين. في بلدٍ ربما من الطبيعي أن تستغرق تحوّلاته الاقتصادية والاجتماعية مئتي سنة، احتاجت الصين إلى ثلاثين سنة فحسب. اليوم، الصين مُختبر لكل أنواع التقنيات، وهذا يحصل بسرعة كبيرة جداً. مثلاً: اليوم لا نرى نقوداً في أيدي الناس، فكل شيء يتمُّ عبر الهاتف المحمول. ونحن مُجبَرون على التأقلم بالسرعة نفسها.
سأوضح الخلاصة: كل ما يهمّني تصوير هؤلاء الذين لا يتمكّنون من اللحاق بهذه التحوّلات، وكل ما تتركه على يومياتهم وأرواحهم، وعلى ضياع الهوية أيضاً. في "24 مدينة"، هناك مليون عامل باتوا في البطالة، فتبيّن كاميرتي درجة معاناة وتضحيات هؤلاء أمام هذا التحوّل الجذري.
برأيي، السينما أقدر على الحديث عن هكذا أحوال.
(*) كيف تولد فكرة الفيلم لديك؟ كيف تطوّر القصة؟ كيف تعمل؟
تنطلق الفكرة دائماً من شخص يواجه صعوبة. أطّلع على الأمر عبر الإعلام أو في لقاءٍ شخصي معه. مثلاً: في "شياو وو، نشال حرفي"، اهتممت بهذه الشخصية لأنّ صاحبها لم يكن قادراً على مواجهة ما حصل له في الحياة، فوقع في هذا المطبّ، ووجد نفسه ينشل. كما ذكرت سابقاً، هناك عمّال يجدون أنفسهم فجأة في البطالة، وبلا مورد. في "لاتزال الحياة" (2006)، ألهمتني الورشة الكبيرة لبناء سدّ على "المضائق الثلاثة" للحديث عنها.
في البدء، أقرّر العمل على فكرةٍ بناءً على لقاء أو واقع أو شخص، بعدها أطوّرها.
(*) كيف تختار الأشخاص في أفلامك الوثائقية؟ أتكتب لهم النصّ، أو توجّههم للحديث عن شيءٍ محدّد، أو تترك لهم حرية التعبير؟ مثلاً أشخاص "لو كنت أعلم" (2010) و"24 مدينة".
في "لو كنت أعلم"، الشخصيات الظاهرة فيه معروفة جداً (18 شخصية تسرد تاريخها وحياتها وتجاربها مع مدينة شنغهاي، التي شهدت منذ 1930 ثورات ثقافية وسياسية واغتيالات وهجرات. المُحاوِرة)، عملنا كثيراً معاً لجمع معلومات عن حياتهم، وحضّرنا معاً الحوار. بعد هذا، كان أمل بأنْ تُثار أمور مهمّة في شهاداتهم. صحيحٌ أنّني أعرف تماماً قصصهم، لكنني مع هذا أصبو إلى أنْ يثيروا، في اللقاء المُصوّر، أشياء أكثر خصوصية وحميمية. لا بُدّ لي من التأقلم مع الشخصيات التي أتعامل معها. مثلاً، في"24 مدينة"، تواجد أشخاص ليسوا معتادين على الحديث، كحال أشخاص "لو كنت أعلم". لذا، كان عليّ إيجاد وسيلة أخرى لخلق جوّ مناسب، لدفعهم إلى الكلام، والتلاؤم مع بيئتهم.
كذلك الاهتمام بتفصيل معين. مثلاً، أتذكّر أنّني سألت العمّال: "كيف أنفقتم الراتب الأول؟". هذا أثار فوراً الرغبة في الحديث، وسرد طرائف، فخُلِقَ رابطٌ بيننا. الوسيلة التي أعتمدها لجعل الشخص يرغب في الكلام لها علاقة بالشخص نفسه، لا سيّما مع غير المعتادين على الكلام أمام كاميرا. هناك أمل دائماً بالحصول على سرد يُمكنه إثارة الدهشة.
حقّقت ثلاثة أفلام بهذا المبدأ، مع أشخاص يسردون قصصهم. الثالث "السباحة خارجاً حتى يصبح البحر أزرق"(2020). لهذه الأفلام قيمة عندي، إذْ يجب ألاّ يُسرد التاريخ من المؤرخين فقط، بل من السينما أيضاً، إنّها الوسيلة الوحيدة التي يمكنها ترك أثر للواقع، هذا دور السينما كما أراه.
(*) ما الذي تبحث عنه بالمزج بين الروائي والوثائقي؟ مثلاً، تظهر ممثلة في "24 مدينة" بين العمّال الذي يعانون البطالة، وتسرد قصة تتلاقى وقصصهم.
يعود هذا إلى حاجة الوصول إلى الواقع، أثناء التصوير. حين أصوّر واقعاً أعرفه جيداً، ربما لا يظهر كلّه أمام الكاميرا كما أرغب. لذا، أجد نفسي مُجبراً على الاستعانة بممثل لتأدية الدور. هذا يتيح لي الاقتراب أكثر من الواقع.
حقيقةً، يسمح الاثنان باتّحادهما عبر تدمير كل الحدود، فتصبح الوسائل لا نهائية لتجسيد ما تعرفه من حقائق.
(*) ما دور الارتجال في أفلامك؟
هذا ما أفضّله، حقّاً. العمل كمخرجٍ يتطلب تحضيرات أولية ومهمّة، مع شحن الخيال طبعاً. عادة، ألتقط ما يحصل في التصوير، كما أترك للممثلين إبداء ملاحظاتهم وآرائهم لإضافتها إلى المشهد.
(*) وما الذي تُفضّل العمل عليه: الروائي أو الوثائقي؟
طبعاً يعجبني العمل أكثر في الروائي، وإنْ كنت مهتمّاً الوثائقي، فالأهمّ يتركز في ما يدور في الذهن، في الخيال. لا يمكن التأكّد من أنّ كل ما يتوفر في الواقع سيظهر أمام الكاميرا. لذا، أجد نفسي مُجبراً على اللجوء إلى الروائي، فحين لا يتمكن الوثائقي من التعبير كلّياً عن الواقع، لا بُدّ من الرجوع إلى الخيال.
(*) شكّلت مجموعة "أفلام تجريبية للشباب"، للسينما المستقلة. أما زالت المجموعة موجودة؟ ما تعريفك لهذه السينما، وما الفرق بينها وبين السينما التجارية في الصين؟
حين كنتُ طالباً في أكاديمية السينما في بكين، شكّلت هذه المجموعة، ثم تفرّقنا بعد الحصول على الشهادة، بعضهم استمرّ معي معاوناً، إلى اليوم.
أمّا عن الفرق بين النوعين السينمائيين، فهناك اختلاف في النظرة. في سينما المؤلّف، يُراقب المخرج الأوضاع لفهم ما يجري، وجلبه إلى الشاشة، أما الفيلم التجاري فيخضع لقانون السوق وعادات المتفرجين، وليس هذا خيار المخرج تماماً. في الوقت نفسه، لا تفريق بين النوعين، فلدى مخرجي السينما التجارية إدراك خاص للعالم، ورسالة يودّون تمريرها، من دون التخلّي عن الروح التجارية. الآن، يجب عدم الفصل بين النوعين، إذْ ليس علينا إغفال نظام السوق لأنّنا نعمل في سينما المؤلف.
(*) ماذا عن سينماك: معروفة في الصين؟ ما الموقف الرسمي منها؟
لديّ هناك جمهور مخلص. لكنْ، ما يُشكّل هذا مقارنة بأكثر من مليار شخص، عدد السكّان (ضاحكاً)؟ رقم ضئيل جداً. لكنه هنا، ويدعمني منذ زمن طويل، لأنّنا نتشارك الإدراك والموقف من الحياة نفسيهما. أمّا علاقتي مع السلطات، فليست الدوائر الرسمية من يتحدّث عن أفلامي، لا مشاكل في عرض أفلامي، مُنع "لمسة من خطيئة" فقط.
(*) أنت معروف عالمياً، أفلامك تشارك في مهرجانات كبرى، ماذا جلب لك هذا الاعتراف العالمي؟
أنْ أُعرف خارج بلدي يعني أنْ ينتبه الآخرون إلى ما أقول وأعرض (يضحك). أدّت الشهرة العالمية إلى خلق نوع من انتظار الناس لما سأقدّمه، هذا له قيمة كبيرة عندي؛ إنّه يسمح لي بقول ما أودّ قوله، وهذا كثير جداً.