جديد "بيكسار": خفّة "روح" وسلاسة إيقاع

جديد "بيكسار": خفّة "روح" وسلاسة إيقاع

20 يناير 2021
بيت دوكتر مُقدِّماً "روح" لـ"بيكسار" عام 2019 (جيسي غرانت/ Getty)
+ الخط -

مع "روح (Soul)"، لبيت دوكتر وكيمب باورز، آخر إنتاجات استديو "بيكسار" بإشراف "ديزني بيكتشرز"، تُضاف لبنة جديدة لصرح المُنجز العظيم لهذه الشركة من أفلام التحريك، عبر الحاسوب، وبتقنية ثلاثية الأبعاد. مُنجزٌ بدأ مع "قصّة لعبة (Toy Story)" عام 1995، تلاه 23 فيلماً طويلاً، عرفت جلّها إشادة نقدية وجماهيرية كبيرة، وفق نسبة نجاح وتأثير يتعذّر إيجاد نظير لها في تاريخ السينما.

رغم أنّه يعزف على وتر مألوف في عالم "بيكسار" ـ يتمثّل في التنمية الذاتية، واكتشاف مكامن القوة في الشخصية الرئيسية، عبر التمرّد على الواقع المعيش ـ لا تخلو قصّة "روح" من أصالة، إذْ تبدو تكملةً غير رسمية، تدفع إلى الأمام بفكرة استكشاف أماكن الظّل، التي تُحدّد علاقة الإنسان بالحياة، وأهمّ قراراته في مواجهة تحدّياتها، بتسليط الضوء على ميتافيزيقا الوجود، بدل الذكريات فقط، كما في Vice-Versa، المُنجز عام 2015.

يرتكز الحكي على يومٍ مفصلي في حياة جو غاردنر (أدّى جيمي فوكس صوته بتميّز، مُعتمداً على حماسته وخلفيته الموسيقية)، أستاذ الموسيقى في مدرسة إعدادية في نيويورك، الذي يتلقّى خبر تعيينه في وقت واحد مع تلقّيه عرضاً بالعزف على البيانو في فرقة جاز، بقيادة عازفة ساكسفون مرموقة، ما يؤجّج صراعاً قديماً فيه، يُسمِّم علاقته بوالدته، بين حياة مستقرّة مالياً، تستلزم نبذ طموحه الموسيقي، وأخرى أكثر شغفاً، تنطوي على المجازفة بالاستقرار، باقتفاء العزف الموسمي والمتقطّع في نوادي الجاز.

ينشأ الانقلاب الدرامي باكراً، حين تؤدّي فرحة جو بتلقّي العرض إلى سقوطه في بالوعة مفتوحة وسط الشارع، فتصعد روحه إلى عالم برزخي، يُطلق عليه الـ"ما قبل"، أو "يو ـ سامينار"، حيث يسهر مستشارون (جميعهم يُسمّون جيري) على إعداد الأرواح الجديدة للحياة، بمساعدتها ـ بواسطة مدرّبين (شخصيات استثنائية طبعت التاريخ بمرورها على الأرض) ـ على اكتساب سمات شخصياتها المتفرّدة، المُعبّر عنها بِشارةٍ معلّقة على الصّدر، تتيح لها الالتحاق بالأرض ما إنْ تكتمل. يُخطئ جيري (ريتشارد أياوادي) بجعل جو غاردنر مُدرّباً، فيُكلَّف جو بمرافقة 22 (تينا فاي، بصوتها الطفولي المشبع بالتحذلق المستفز)، إحدى أقدم الأرواح "غير المولودة"، وأكثرها استعصاءً على إيجاد "شرارة" الوجود، رغم محاولات عشرات المدرّبين العظماء: محمد علي كلاي والأم تيريزا ونيكولاس كوبرنيكوس وأبراهام لينكولن، وغيرهم.

شخصيتان متضادتان: أربعيني غير واثق من نفسه، يسعى باستماتة إلى العودة إلى الأرض لاستثمار فرصة حياته، وروح مراهِقة بالغة الاعتداد بذاتها، تحتقر الحياة على الأرض اقتناعاً بعدم جدواها وبرتابتها، رغم أنّها لم تُجرّبها بعد. عبر لقائهما، تتكوّن حالة مفارقة وخصبةً بالتحدّيات والانقلابات الدرامية، يستثمرها سيناريو "روح" (المخرجان دوكتر وباورز، مع مايك جونز) بمطلق السخاء، حيث تنشأ شيئاً فشيئاً صداقة (تنبني على نسق التجاذب تارةً والتنافر تارةً أخرى) بين الرّوحين، عمادها حيرة 22، وفضولها الناجم عن شغف جو بالعودة إلى الأرض، رغم حياته البائسة، والحاجة الملحّة لهذا الأخير إلى مساعدة 22 على إكمال شارتها، للالتحاق مجدّداً بالأرض، وتفادي الانصهار في ضوء الـ"ما ـ وراء".

مرّة أخرى، يبرع فنّانو "بيكسار" في تصميم فضاءات مغرقة في الابتكارية، كالـ"يو ـ سامينار" ذي الأجواء الغسقية والمريحة، المتناغمة مع أشكال المستشارين الشفّافة والأثيرية، ذات الخطوط المستوحاة من عوالم بيكاسو، وتأثير النحت الاسكندنافي المعاصر. راحة يُبدّدها تيري (يُذكّر شكله ونمط تحرّكه الخطّي بسلسلة "لالينيا"، الكرتونية الخالدة، للإيطالي أوزفالدو كافاندولي)، المستشار المسؤول عن الحسابات، الذي يُمثّل نوعاً ما نقيض جيري، المحيل على التّضاد بين الملائكة والشياطين، حين يُفطَن لتنصّل جو من ضرورة الالتحاق بالـ"ما ـ وراء". أمّا فضاء الذكريات (المذكِّر بـ"Vice-Versa")، فيُمهّد لترسيخ فكرة بؤس حياة جو في شكلها السابق، ثمّ عقد صفقة مع 22، جوهرها حصول جو على تأشيرتها، واستفادتها بالتالي من الإفلات من الحياة على الأرض. بعد ذلك، تنشأ الحاجة إلى فضاء "بهو الأشياء كلّها"، الذي يُجسِّد نوعاً من كفرناحوم، حيث يُعثر على كلّ شيء قمين، بإشعال شرارة الحياة في 22، لكن من دون جدوى.

 

 

التأثير الواضح للديانات الإبراهيمية ليس سوى بعد مبدئي في سيناريو "روح"، فسرعان ما ينفتح الحكي على أبعاد مرجعية أخرى، على غرار عقائد الشرق الأقصى، المؤمنة بتناسخ الأرواح (تجسّد جو في قطّ)، وبالأخصّ ممارسات التأمّل الباطني، المفضية إلى حالة النيرفانا (التجرّد من أي معاناة أو إحساس بالمحيط)، التي تشكّل الفكرة وراء فضاء آخر: "المنطقة". وهذا ربّما الأكثر تفرّداً وأهمّية في حبكة الفيلم، لتمثيله التلاقي بين عالمي الملموس والروحانيات، حيث تسمو إليه الأرواح من الأرض، في حالات الاختلاء القصوى، أو الاندماج الكامل في ممارسة الأشياء التي نحبّها، ما يجعله بوابة عبور غير رسمية، تتسيّدها شخصية القرصان "مون ـ ويند"، الحاضر بجسده في الأرض كمستبصر "هيبي" المظهر، يشتغل "بهلوان إعلانات" في أحد مفترقات شارع مانهاتن. ذروة العبقرية السّردية.

لعلّ مردّ هذا الغنى في الجانب الروحاني الهوس التقليدي لـ"بيكسار" بالبحث والتنقيب رفقة اختصاصيين، بشكل مُعمّق ودقيق، منذ مرحلة الكتابة، مروراً بالتصميم والتحريك، وصولاً إلى تسجيل الأصوات والمؤثّرات. هوس تُترجمه هنا أيضاً صدقية الرافد الآخر للحبكة، المتمثّل في عالم الجاز، وأجواء النوادي الموسيقية الليلية في نيويورك، بفضل دور كيمب باورز، المُقرَّر أنْ يشتغل على إغناء شخصية جو فقط، بوصفه كاتباً مسرحياً وموسيقياً أربعينياً من أصل إفريقي، قبل أن تؤدّي مساهمته الكبرى في خلق الفيلم، على الأصعدة كلّها، إلى تبوّؤ مهمّة مخرج مساعد.

نقطة القوة الكبرى لـ"روح" كامنةٌ في أن موسوعيته وتعدّد مراجعه لا يؤدّيان البتّة إلى تبنّي الديداكتيكية في التناول، إذْ يظلّ الفيلم مُحتفظاً بخفّة الروح وسلاسة الإيقاع، مع لمسة الكوميديا الذكية، التي تُعدّ ماركة مسجّلة لاستديو "أباجورة المكتب"، بفضل النكتة المرتكزة على خليط من الموقف الهزلي والدلالة العميقة، كاللقطة الرائعة التي تُظهر تلعثم جو خوفاً في نطق حروف "جحيم" أمام جيري، فتتقافز الأرواح الجديدة حوله هاتفةً بالكلمة بمنتهى التجرّد المرح والمتحرّر، كنايةً عن أنّ مفهوم الجحيم، قبل كلّ شيء، محض تكوينٍ عقلي، يُلقَّن على الأرض.

هناك أيضاً جانب الكوميديا، الذي ينتج عن تمتّع 22 بتفاصيل العيش على الأرض، لأنّها منفلتة من كلّ تأثّرٍ بنظرة الآخرين إلى تصرّفاتها، عكس جو الذي ينظر إليها مندهشاً بعيني قطّ، في تجسيد رائع لقدرة الغيرية على إلقاء نظرة جديدة على الوجود. كلبية 22 تتيح لها التمتّع بتجربة شاملة، بتعبير فلسفة كارل غوستاف يونغ، الذي يقرن "وصول فروع الشجرة إلى الجنّة بتغلغل جذورها في الجحيم". الظهور ـ التحية ليونغ، في لقطة المدرّبين العظماء، ليس اعتباطياً أبداً، لأنّ الفيلم مَدين بالكثير لفلسفته في دراسة الروح، وضرورة استكشاف المرء غياهب اللاوعي، وأبحاثه حول سمات الشخصية الحديثة، ما يُمهّد للفكرة المحورية لـ"روح": الدعوة إلى تجاوز وجهة النظر المبتذلة، التي تقول إنّ المرء يكفيه أنْ يكتشف شغفه الأسمى، ليعيش حياة هنيئة، لا يضطر بعدها للاشتغال مرّة أخرى، إلى رؤية أكثر غنىً ورحابةً، تستشفّ أنّ مغزى الحياة السعيدة يتجدّد في أعيننا، مع كلّ لحظة نعيشها على الأرض إلى أقصاها، وبمنتهى التفرّد.

المساهمون