استمع إلى الملخص
- تحت تأثير الدكتاتوريات، تحولت دمشق إلى سجن للفقراء، حيث صودرت الأراضي والفضاءات العامة، مما قيد حرية التنزه وأثر على الطقوس الاجتماعية مثل "السيران" الشعبي.
- بعد سقوط النظام، استعاد السوريون حريتهم في التنقل وزيارة جبل قاسيون، معبرين عن رغبتهم في استعادة فضاءاتهم العامة ومشاركة لحظات الفرح والحرية.
على قمّة جبل الأربعين، هنالك صخرةٌ حمراء، هي أداة القتل الأولى، أو بالأحرى آثار أولى الجرائم في الإنسانية. لا تزال دماء هابيل تسكن هذا الجبل، جبل قاسيون، فوق الصخرة الحمراء التي استخدمها قابيل لقتل شقيقه هابيل. هكذا تحكي المرويّات الشعبية التي حوّلت جبل الأربعين إلى مزار للسوريين، وشاهد على الشر الكامن في الطبيعة البشرية. إلا أن قاسيون الذي يحتضن الأساطير الشعبية والسرديات الدينية، هو في حد ذاته حارس دمشق ومأوى أبنائها.
في دمشق، كان للفقراء، تاريخياً، حصّة من مدينتهم، فإلى جانب المتنزهات والحدائق، كان لهم قصورٌ أيضاً، لعل أشهرها ما ورد على لسان الشاعر تاج الدين الكندي، حين قال: "إنَّ نور الدين لما أن رأى… في البساتين قصورَ الأغنياءِ/ عمَّر الربوة قصراً شاهقاً… نزهة مطلقة للفقراءِ".
قصر الفقراء الذي يذكره الشاعر بناه نور الدين الزنكي في غوطة دمشق، وكان أصدق معبّر عن طبيعة المدينة وكيفية تناغم بعض حكّامها معها؛ فمع أن ظروف الحياة لم تكن سهلةً، دائماً لكنّ الدمشقيين امتلكوا رقةً وعطفاً بعضهم تجاه بعض، حتى يحكى أن دوابّهم التي تتقدم في العمر وتعجز عن أداء مهامها، تُنقل إلى فسحة على أطراف المدينة، وهناك تتمتع بالمراعي في أيامها الأخيرة.
سقط النظام، فُتح طريق قاسيون، وتغيرت ملامح المدينة، وكذلك فضاؤها الحيوي، وهويتها البصرية. عادت مسوّرة بالأضواء الآتية من الجبل، حيث اتجه الدمشقيون إلى معاينة مدينتهم من أعلى نقطة لها، وليجددوا شعورهم بالانعتاق.
خلال ما يطوف عن خمسة عقود، وبفعل الدكتاتوريتين المتعاقبتين، تحوّلت دمشق إلى سجنٍ كبير للفقراء ممن شهدوا وحشاً شرساً يقضم البقاع الخضراء تباعاً، ويصادر أراضيهم وبيوتهم ومدينتهم، حتى غدت الفضاءات العامة من المدينة مخصخصة لرؤوس الأموال الذين اتخذهم النظام السابق واجهةً له، في حين أقفلت أماكن التنزه، فأصبح الفقراء يجبرون على أعمال شاقّة طوال اليوم من دون أن يتّخذوا إلا من بعض المساحات الخضراء الضيقة على جانبي الأُتوسترادات المكتظة مكاناً للراحة.
لهذا السجن الرمزي، متنفّس رحب يقصده الدمشقيون، أولئك الذين لازمتهم فكرة النزهة، أو السيران (كما يحبون أن يسموها)؛ فهذا الطقس البسيط هو جزءٌ أصيلٌ من موروثهم وثقافتهم الشعبية، وحيّزٌ من ذاكرتهم الجمعية التي ينشدون فيها زمن البساطة والوداعة.
ما الذي حدث؟ وكيف خسر هؤلاء الفقراء فسحاتهم السماوية التي اعتادوا عليها؟ ربما قد نحتاج إلى استقصاء طويل حول اقتصاد السلطة وسياساتها الداخلية "الأمنية" لنجيب عن هذه التساؤلات، إلا أن سقوط الأسد سيرتبط في ذاكرة السوريين بتلك اللحظات التي بدؤوا يستعيدون فيها فضاء المدينة الواسع، اللحظات التي اختار فيها آلاف السوريين أن يصعدوا إلى قاسيون تماماً بقدر فضولهم لدخول القصر الرئاسي، الجبل الذي أغلق في وجههم منذ الأشهر الأولى من احتجاجات 2011، وهناك بالرغم من البرد القارس تأملوا مدينتهم من ذروتها، التي لم يعرفها جيلٌ كامل من السوريين.
كانت عبارت مبهمة وغير مفهومة، مثل "الضرورات الأمنية"، كفيلة بتضييق الخناق على السوريين تدريجياً، حتى بات من المحرّم عليهم الاقتراب من أماكن "السيران" المعتادة. وما إن اشتعل القتال في غوطة دمشق، حتى أصبح الخروج إليها مخيفاً، فإما أن يسقط هؤلاء ضحية لمعركة مفاجئة، أو أن يجدوا أنفسهم موضع شبهة أمنية حين يتجمعون في مكان كهذا، من دون أن يعلموا أن السر يرتبط بهذه الكلمة بالتحديد: "التجمّع". تلك الفكرة المقلقة للنظام السوري وأي نظام سياسي دكتاتوري آخر، يتخيل أن المؤامرات تحاك في أي تجمع حتى ولو كان أسرياً غايته الترفيه بعد أيام طويلة من العمل الشاق.
لم تكن الفوارق الطبقية لتغير طبيعة "السيران"، ذلك الطقس الشعبي العام والمقدّس، المجاني الذي يستوي فيه الفقراء والأغنياء، إلا أن الخطط الاقتصادية الحديثة التي شيدت منشآت جديدة، مثل المطاعم الراقية والمولات الضخمة، بين الأكثرية الفقيرة، والسياسات الأمنية التي سدت الطريق أمام الفسحات المجانية، أبدلتا تمظهر "السيران"، فتحول إلى شكل يعكس الطبقية الفجة في المجتمع. هكذا، انخفض ضجيج العطلات من "طريق المطار" و"الجندي المجهول" و"سفح قاسيون" و"بسيمة" وغيرها من الأماكن، وأصبح يوم العطلة يشهد حركة ملحوظة للخروج من دمشق إلى "دمشق الجديدة".
كثير من هذه العائلات كانت لا تكاد تستطيع أن تدفع رسم دخول المولات التجارية، مكتفية بالنظر فحسب، من دون أن يأكل أبناؤها أو يشربوا، وذلك بعد أن يتعرّضوا لتفتيش على بوابات قصور الترفيه، هذه ليشعروا تالياً بالنظرات المرتابة للسكيوريتي (الكلمة التي تعلّمها الفقراء حديثاً). وفي حالات أخرى كان سكان دمشق يكتفون بالذهاب إلى منطقة الربوة والتنزه على الأرصفة بجانب ما بقي من نهر بردى، قريباً من النفايات التي تسبح في مياهه، وأغاني مرحلة "الانحطاط" الفني الصادرة من المقاصف المجاورة.
ما إن أدرك السوريون أن أحداً لن يصادر فضاءات مدينتهم، خرجوا بأفواج غفيرة إلى جبل قاسيون، المطل على دمشق من ارتفاع يتجاوز 1000 متر، ومنه تأملوا مدينتهم من علٍ، وعلى الرغم من أن المكان ارتبط عادة بالصيف، كان انتظار الصيف صعباً، فارتدى الناس ما تيسر لديهم من ثياب وصعدوا إلى أبرد نقاط دمشق، ليُفاجؤوا بعشرات البسطات والأكشاك التي تقدم للزوار مستلزمات التنزه.
ونظراً إلى كم الإقبال المهول، بات الانتظار في السيارة يطول، فعلى الزوار اليوم خاصة في العطلة، أن يقفوا في طابور طويل حتى يصلوا. ومع كل هذا العناء، لا يبدو عليهم التذمر والإعياء.
من ضمن الأسرار الكثيرة التي حملها بشار الأسد معه حين هرب من سورية، سيظل سر إغلاق هذه الأماكن مغيّباً. هل يشكّل الجبل خطراً أمنياً على القصر الجمهوري كما تداول السوريون؟ أم أنه اتخذ منها منصة لإطلاق الصواريخ وفق ما يشاع؟ لا يبدو الجواب عن هذا السؤال ضرورياً للعديد من الناس، لكن الإجابات المتنوعة ستدرج أيضاً ضمن قائمة المرويات الشعبية المتعلقة بجبل دمشق المقدس.
المهم اليوم أنّهم يستطيعون التنقل بحرية في مدينتهم، ويرغبون في التقاط الصور ونشرها على صفحاتهم على وسائل التواصل الاجتماعي، بدلاً من صور بائسة التُقطت ملايين المرات من على جسر الرئيس حافظ الأسد سابقاً (يعرف اليوم بجسر الحرية)، حيث يظهر فندق فورسيزنز في الخلفية، ليعطي إيحاءً مضللاً بأن دمشق تواكب الحداثة، أو كانت على درب ما أسماه بشار الأسد بمسيرة التطوير والتحديث.
طبيعة المدينة (وسكّانها) بدت عصية على فهم الطغاة، وظنّوا أن محاباة أغنيائها كافية، ففي دمشق نفسها جرى تقطيع أوصال حديقة المنشية، على مر سنوات طويلة، حتى باتت قطعاً مبعثرة بُنيت فوقها مرافق للأغنياء وحُرم الفقراء منها، وظلّت هذه المساحات الشاسعة تثير حماسة "المستثمرين" الذين استطاعوا، عبر فساد منظم، شراء كل ما يمكن شراؤه وتحويل النزهات إلى تذاكر دخول وزجاجات مياه معبّأة حملت أسماء ينابيع سورية. وبالرغم من حواجز الإسمنت بين السوريين وينابيعهم، ظلّت قلوبهم معلّقة هناك في وصف يشبه كثيراً ما جرى في فيلم Spirited Away للمخرج الياباني هاياو ميازاكي، حينما شعرت تشيهيرو بالألفة عند لقائها هاكو، لتدرك لاحقاً أنه لم يكن سوى روح نهر كيهاكو الذي أنقذها حين كادت أن تغرق فيه.