استمع إلى الملخص
- يُقام معرض "بين نظرة ونظرة: جيروم: فن وأثر" في الدوحة، حيث يُعرض 400 لوحة لجيروم، بهدف مناقشة تأثير الفن الاستشراقي على التصورات السائدة ودوره في تشكيل الهوية العربية.
- استخدم جيروم التصوير الفوتوغرافي لدعم أعماله، مما عزز الصور النمطية للشرق، ونال شهرة من خلال تصويره للحياة القديمة في اليونان والإمبراطورية الرومانية.
لم يجد المفكر العربي الراحل إدوارد سعيد 1935- 2003 صورة تختصر رؤيته للاستشراق أفضل من صورة لوحة (ساحر الثعابين) المرسومة عام 1880 للفنان الفرنسي المستشرق جان ليون جيروم (1824-1904) ليضعها صورة لغلاف الطبعة الأولى من كتابه الشهير (الاستشراق) المنشور عام 1978 والذي حلل فيه آليات ارتباط الدراسات الاستشراقية والأدب والفن الاستشراقي بالمجتمعات والسلطات الكولونيالية كاشفا "الكليشيهات التي اتّبعتها الدول الاستعمارية لفرض هيمنتها على المستعمرات". تجسد اللوحة طفلا عاريا يلتف حول جسده ثعبان ضخم يقدم عرضا على سجادة صلاة في مسجد بمرافقة عازف ناي أمام عدة أشخاص يحملون أسلحتهم التقليدية ويتوسطهم وجيه محلي وهي معروضة في متحف معهد كلارك للفنون في الولايات المتحدة.
تصف الناقدة الفنية الأميركية الراحلة ليندا نوتشلين هذه اللوحة بأنها "وثيقة بصرية للأيديولوجية الاستعمارية في القرن التاسع عشر" وتضيف أن خطورة هذه الرسمة تكمن في "جودتها الكبيرة والتقاطها للتفاصيل الدقيقة والتي تسمح بتقديم مشهد غير واقعي كما لو كان تمثيلًا حقيقيًا للشرق". المفارقة أن سعيد لم يناقش أعمال جيروم، ولكن دراسته عن الاستشراق أحدثت تحولا كبيرا بالنظرة لفن جيروم.
متحف لوسيل المنتظر
يتيح معرض (بين نظرة ونظرة: جيروم: فن وأثر) المقام حاليا في المتحف العربي للفن الحديث في الدوحة بمناسبة المئوية الثانية لولادته مشاهدة لوحات جيروم، حوالي 400 لوحة، بعضها مملوك لمتحف لوسيل الذي سيفتتح قريبا في العاصمة القطرية الدوحة وهو المنظم لهذه الفعالية فيما الجزء الآخر آتٍ من متحف المتروبوليتان في نيويورك، ومتحف الفنون الإسلامية في ماليزيا. ستكون لوحات جيروم معروضة ضمن متحف لوسيل المتخصص بفن الاستشراق حيث يضم متحف لوسيل مجموعة من اللوحات الاستشراقية في العالم جمعت مع بداية مشروع المتحف الجديد عام 2006 وبذا يكون المتحف المؤسسة العربية الوحيدة التي تعرض أعمال جيروم.
لا يقدم المتحف هذه الأعمال وغيرها بدون طرح أسئلة حولها، بل ستكون هذه الإشكاليات ضمن مفهومه لعرض فن الاستشراق حيث يطرح متحف لوسيل تساؤلات مثل: كيف يُمكن تقديم الفن الاستشراقي اليوم في متحف بالعالم العربي؟
وما الذي يمكن أن نتعلمه عن هياكل السلطة في القرن التاسع عشر وتبلور الهوية العربية من هذه اللوحات، وكيف تستمر في التأثير على التصورات السائدة؟ أيضاً، كيف ألهمت هذه اللوحات الأفلام والصور الفوتوغرافية ووسائل الإعلام الأخرى التي قد تعزز الصور النمطية للهوية العربية؟ وكيف يمكننا عرض هذه اللوحات باعتبارها مصدر إلهام للتأمل المثمر وإقامة الحوار وإثارة نقاش حول الهويات المعاصرة، وتغيير الخطاب وعكس النظرة النمطية؟ هذه الأسئلة ستكون من مهام مركز لوسيل للبحوث وهذا المعرض بروفة أولية لما سيقوم المتحف بعرضه.
يتصدى المعرض لمهمة صعبة تتجلى بتقديم نظرة مختلفة لما أُشيع عن فن جيروم من رسمه الشرق ضمن رؤية استشراقية نموذجية "ليقدم تأويلات جديدة للفنان في نطاقها الواسع، دون إغفال مساهمات هؤلاء المختصين كالناقدة ليندا نوتشلين، أو كتاب إدوارد سعيد الرائد الاستشراق".
تدعو إيميلي ويكسي وهي إحدى القيّمات على المعرض الزوار لأن يعيدوا النظر بفن جيروم وعدم الاكتفاء بمنظور واحد مهما كان مقنعا لأن تفسير أعمال جيروم قد شهد انقلابا جذريا بين القرن التاسع عشر حين ظهرت أعماله وبين القرن العشرين حين صدر كتاب الاستشراق لإدوار سعيد ثم مادة ليندا نوتشلين (الشرق الخيالي) إذ إن الجمهور نظر في القرن التاسع عشر لأعمال جيروم على أنها تقدم تصويرا واقعيا للحياة الشرقية بتقنية عالية وأحدثت نقلة نوعية في تصورات جمهور القرن التاسع عشر عن هذه المناطق في حين أنها في القرن العشرين بدت وثائق سياسية داعمة للمشروع الاستعماري الفرنسي.
ترك جيروم ما يقرب من 700 لوحة و 70 منحوتة موزعة في المتاحف والمجموعات الخاصة في جميع أنحاء العالم. والجدير ذكره أن جيروم أهدى معظم أعماله لمتحف جورج غاريت في مسقط رأسه في مدينة فيسول الفرنسية. وقد بيعت لوحاته بعد فترة إهمال لفنه بمبالغ كبيرة حيث بيعت بعضها عام 2019 بمزاد علني وحققت أرقاما كبيرة فبيعت لوحة (الجمال الشركسي المحجب) بأكثر من ميلوني جنية إسترليني وحققت لوحته (الحريم في الكشك) أكثر من مليونين ونصف مليون جنيه إسترليني وقدر ثمن لوحة (الفرسان يعبرون الصحراء) بأكثر من ثلاثة ملايين جنيه إسترليني.
التصوير الفوتوغرافي عند جيروم
استخدم جيروم الاكتشاف الجديد الذي غزا العالم حينها وهو التصوير الفوتوغرافي، وهنا نجد صوره التي تتقاطع مع اللوحات النمطية التي رسمها ونكاد لا نفرق بينها وبين الرسومات، حيث استخدم جيروم الكاميرا أولا لإنتاج صورة فوتوغرافية ثم أعاد رسم لوحة مطابقة للصورة، وأيضا قام باستغلال الصور الفوتوغرافية للترويج لأعماله حيث كان يجمع هذه الصور في ألبومات وينشرها. وهنا نذكر كيف قام بإرسال ألبومات صوره للخديوي إسماعيل بعد لقائهما فُدعي مع عدد من الفنانين الفرنسيين لحضور افتتاح قناة السويس عام 1869. يقول القيمون على المعرض عن صوره الفوتوغرافية إن "العديد من صوره الفوتوغرافية مدهشة وغير مألوفة، وتكشف عن مشاهد يصعب تصديقها لولا رؤيتنا لها بعيوننا في تلك الصور".
كان جيروم حريصا على رسم ما يراه في المكان عينه ويقف أحيانا ليرسم لوحته في مكانها، كما فعل في لوحة (توقف في الصحراء).
في مقال صحافي لجيروم عن تجربته، وصف مدى أهمية الرسم في الموقع: "حتى عندما تآكلت بعد مسيرات طويلة تحت أشعة الشمس الساطعة، بمجرد وصولنا إلى مكان التخييم، بدأتُ العمل بتركيز. ولكن يا إلهي! كم من الأشياء تركت ورائي ولم أحمل منها سوى الذكرى! وأنا أفضل ثلاث لمسات من اللون على قطعة من القماش على الذكرى الأكثر حيوية، ولكن كان على المرء أن يستمر مع بعض الندم بنفسه باستعارة الحقيقة والبئر في المقدمة التي كتبها لكتاب إميل بايارد "الجمالية الجديدة" الذي نُشر عام 1902، لوصف التأثير العميق الذي لا رجعة فيه للتصوير الفوتوغرافي".
موضوعات جان جيروم
رسم جيروم نساء الشرق كما هن في المخيلة الغربية، نساء ألف ليلة وليلة، كما في لوحته (نساء في الحمام) نساء عاريات يسترحن بعد الحمام مع بعضهن ويدخن النرجيلة أو لوحته (الحريم على الشرفة) حيث يسبح بعضهن عاريات وأخريات يعزفن الموسيقى. أما في لوحة (رحلة الحريم في القارب) والتي رسمها في مصر فهي تجسد قاربا على نهر النيل، فيه خيمة مزخرفة تضم نساء في رحلة نهارية ويظهر رجال يجذفون بالقارب وفي الخلفية منظر لمعبد فرعوني وواحة نخيل. "إنها تثير الخيال الهائج عن الحرملك وتعبر عن أفكار نمطية".
صوّر جيروم ورسم مشاهد الطبيعة والحياة اليومية وأحياء العبادات الدينية في المشرق من خلال أسفاره المتعددة إلى إسطنبول والقاهرة تحديدا، ففي رحلته الأولى لمصر عام ١٨٥٦ ركب عوامة في النيل من القاهرة مرورا بالفيوم، ومن ثم إلى أبو سمبل، ثم عاد إلى القاهرة، ومنها انتقل إلى شبه جزيرة سيناء وصعودًا في وادي عربة إلى القدس وأخيرًا دمشق.
زيارته لإسطنبول أسفرت عن الكثير من اللوحات، ولكن بالنسبة لي، تشكل لوحة (مسجد العنانيين، الرؤوس المقطوعة) والتي رسمها عام ١٨٦٦ مثالا صارخا للنظرة الغربية للشرق السادي المولع بقطع الرؤوس.
في مصر رسم لوحات كثيرة واهتم بالألبان الذين جاءوا مع محمد علي باشا وأصبحوا من المكونات المميزة في المجتمع المصري، بعد أن نجح محمد علي في الوصول إلى الحكم في 1805 مخصصا لهم نحو 25 لوحة كما يذكر الباحث محمد الأرناووط.
لم يكتف جيروم برسم صورة الشرق المتخيلة غربيا، بل رسم أيضا لوحات تمثل أول احتلال غربي لبلد عربي وهو الحملة الفرنسية على مصر، حيث اشتهرت لوحته (الجنرال نابليون بونابرت في القاهرة) والتي رسمها حوالي عام ١٨٦٧ والتي ستكون إحدى معروضات متحف لوسيل في الدوحة. وقد رسم الفنان الفرنسي عدة لوحات لنابليون في مصر ومنها (الجنرال بونابرت برفقة عساكره في مصر)، وتعتبر لوحة (نابليون أمام أبي الهول) من أشهر ما رسم في مصر.
مقتل قيصر وصراع الديكة
بدأت شهرة جيروم مع اللوحات التي جسد فيها بإتقان وحرفية الحياة القديمة في اليونان والإمبراطورية الرومانية، ومن أشهرها لوحة (مصارع) التي قدم فيها تفاصيل دقيقة عن الأزياء والبناء والأسلحة وتشريح الجسم الإنساني وهذه اللوحة ألهمت فيلم غلاديايتر والذي يُعرض جزؤه الثاني هذه الأيام.
وقد قدم جيروم لاحقا العديد من الرسومات التي تنهل من تلك الفترة كلوحته الشهيرة (مقتل قيصر) والتي يصور فيها اغتيال الإمبراطور الروماني على يد رفاقه والصيحة التي انتهت بها حياة القيصر: "حتى أنت يا بروتوس". كما عُرفت لوحاته التي تصور النساء العاريات كما في لوحة (صراع الديكة). نال جيروم شهرة واسعة بعد رسوماته الأولى عن إسطنبول التي قال عنها: "لقد أثارت إقامتي القصيرة في القسطنطينية شهيتي وكان الشرق حلمي الأكبر". لم يكن فناننا ودودا مع مجايليه من الفنانين ولا سيما أتباع المدرسة الانطباعية الذين انتقدهم بقسوة، فقد اعترض على المعرض التكريمي للفنان الفرنسي إدوارد مانيه في مدرسة الفنون الجميلة في عام 1884. لكنه حضر الافتتاح، وبعد ذلك قال إن المعرض "لم يكن سيئًا كما تصورت".