استمع إلى الملخص
- ردّت إدارة "تيك توك" على الاتهامات بأنها محايدة، لكن الضغط السياسي أدى إلى تمرير قانون في 2024 يجبر الشركة على بيع فرعها الأميركي لمستثمرين أميركيين، مما أثار الشكوك حول دوافع القرار.
- في 2025، تسربت أسماء مستثمرين أميركيين مرشحين للاستحواذ على "تيك توك"، مما كشف عن مصالح جماعات الضغط المؤيدة لإسرائيل، وأثار تعيين إيريكا ميندل جدلاً واسعاً.
خلال عامين من حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة، لم تقتصر المعركة على الأرض ولا على الهواء. فهناك ساحة رقمية اشتعلت على نحوٍ غير مسبوق، كان عنوانها تطبيق المقاطع القصيرة الصيني تيك توك الذي تحوّل إلى ميدان مواجهة موازٍ بين إسرائيل من جهة، والمحتوى الفلسطيني والمتضامن معه من جهة أخرى. في زمنٍ صار فيه الهاتف سلاحاً، أمسى "تيك توك" نافذةً يطلّ منها ملايين الشباب الأميركيين والغربيين على مشاهد الدمار والحصار والجرائم الإسرائيلية في القطاع، فبدأت واشنطن وتل أبيب معاً حملةً لإسكات هذا الصوت.
منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، أي مع بداية العدوان الإسرائيلي، لاحظ مستخدمو "تيك توك" حول العالم ظاهرة غير مسبوقة: المحتوى المتضامن مع فلسطين يهيمن على المنصة. مقاطع تحمل وسم StandWithPalestine# تجاوزت 2.9 مليار مشاهدة، في مقابل 200 مليون فقط لوسم StandWithIsrael#. أما وسم BoycottIsrael# فحقق أكثر من 340 مليون مشاهدة، بينما وصلت مشاهدات وسم #BDS إلى ما لا يقل عن ثلاثة مليارات.
هذا الميل الجارف للتضامن الشعبي لم يكن صدفة. فكما تشير دراسات صادرة عن مركز "الأمن السيبراني من أجل الديمقراطية"، فإن "تيك توك" في الولايات المتحدة أظهر أن مقابل كل منشور مؤيد لإسرائيل في سبتمبر/أيلول 2024، كان هناك نحو 17 منشوراً مؤيداً للفلسطينيين. وهي فجوة لم تتغيّر خلال عامين من الحرب. تقول الباحثة في علوم الحاسوب في جامعة نورث إيسترن، لورا إدلسون، لصحيفة واشنطن بوست، إن "الفارق الكبير لا يعود إلى عدد الفيديوهات فحسب، بل إلى انتشار عدد محدود منها على نطاق واسع، مؤثراً في ملايين المستخدمين". ومع ازدياد عرض اللقطات المروعة للضحايا والمنازل المدمّرة، أخذ الرأي العام الأميركي، خصوصاً بين الشباب، يميل أكثر إلى إدانة الاحتلال ورفض حرب الإبادة.
كان لهذا التفاعل وقع الصدمة في تل أبيب وواشنطن. فقد رأت إسرائيل، التي طالما راكمت نفوذها عبر الإعلام التقليدي، أن المنصات الرقمية تهدم سرديتها القديمة. بدأ الهجوم من السياسيين: السيناتور الأميركي ماركو روبيو اتهم "تيك توك" بـ"التقليل من إرهاب حماس"، داعياً إلى حظره، بينما قال الرئيس الإسرائيلي إسحق هرتسوغ إن التطبيق "يغسل أدمغة المستخدمين". أما الحكومة الإسرائيلية فدرست عام 2024 خيارات حجب المنصة أو تقييدها أو حتى تشكيل ائتلاف دولي لمواجهتها.
في المقابل، ردّت إدارة "تيك توك" بأن ما يظهر من محتوى مؤيد لفلسطين ليس نتيجة "تلاعب"، بل انعكاس لمشاعر المستخدمين أنفسهم. وأكّدت الشركة أن خوارزمياتها "محايدة"، وأنها تحذف مئات الآلاف من المقاطع التي تنتهك سياساتها. وذكرت أنها أزالت أكثر من 500 ألف فيديو، وأغلقت ثمانية آلاف بث مباشر خلال الشهور الأولى من العدوان، وأنها زادت عدد المشرفين الناطقين بالعربية والعبرية لرصد المحتوى "العنيف أو المضلل".
لكن الإجراءات لم تهدّئ إسرائيل ولا داعميها. فكلما استمر تدفّق صور الدمار في غزة عبر التطبيق، ازداد الضغط السياسي والإعلامي ضده، وبدأت تلوح في الأفق حملة منظمة لحظره أو الاستحواذ عليه.
في ربيع 2024، مرّرت إدارة جو بايدن قانوناً يجبر الشركة الصينية المالكة للتطبيق، "بايتدانس"، على بيع فرع "تيك توك" في الولايات المتحدة إلى مستثمرين أميركيين، بذريعة "حماية بيانات الأميركيين من الصين". غير أن التوقيت أثار الشكوك. فوفق "وول ستريت جورنال"، فإن "الزخم الجديد لحظر تيك توك" جاء جزئياً نتيجة الغضب من انتشار المقاطع المناهضة لإسرائيل، فيما قال النائب الديمقراطي رجا كريشنامورثي صراحة إن حرب غزة كانت أحد الأسباب التي دفعته لدعم الحظر. لاحقاً، كشف السيناتور الجمهوري جوش هاولي أن السبب الرئيس وراء دعوته لحظر التطبيق هو "انتشار المحتوى المعادي لإسرائيل". وهكذا تحوّل الجدل من قضية "أمن سيبراني" إلى معركة رقابة سياسية بامتياز.
في منتصف عام 2025، بدأت تتسرّب أسماء المستثمرين المرشحين للاستحواذ على "تيك توك" الأميركي: لاكلان مردوخ، ومايكل ديل، ولاري إليسون. ثلاثة رجال أعمال أميركيين على علاقة وثيقة بإسرائيل. مردوخ، ابن إمبراطور الإعلام روبرت مردوخ، يملك مع والده شبكات "فوكس نيوز" و"نيوز كورب" و"نيويورك بوست" المعروفة بانحيازها الشديد لتل أبيب. أما ديل، مدير شركة "ديل تكنولوجيز"، فتزوّد شركته جيش الاحتلال بتقنيات رقمية وأنظمة بيانات. في حين يقود إليسون شركة "أوراكل"، التي تتعاون مع الحكومة الإسرائيلية في مشاريع بنية تحتية وأمن سيبراني.
وفي يوليو/تموز 2025، أثار "تيك توك" عاصفة جديدة عندما عيّن إيريكا ميندل، وهي موظفة سابقة تدربت في سلاح المدرعات في جيش الاحتلال، مسؤولة عن مراجعة سياسات المحتوى المتعلقة بـ"خطاب الكراهية". خطوة رآها ناشطون "اختراقاً إسرائيلياً مباشراً لإدارة المنصة"، خصوصاً أن التعيين جاء بعد اجتماع نظمته "رابطة مكافحة التشهير" المؤيدة لإسرائيل.
لا يبدو أن الصراع على التطبيق صيني ــ أميركي بحت كما يُروَّج. فخلف شعارات "الأمن القومي" و"حماية المستخدمين"، تتضح مصالح جماعات الضغط المؤيدة لإسرائيل في الولايات المتحدة، التي تسعى إلى تطويع المنصات الرقمية الكبرى بما يخدم روايتها السياسية والإعلامية.
من هنا جاء أمر الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، في سبتمبر الماضي، بدعم إنشاء نسخة أميركية من "تيك توك" مملوكة لمستثمرين محليين، هم أنفسهم الذين تجمعهم صلات وثيقة بإسرائيل. ورأى محللون في معهد بروكينغز أن "ما يجري هو سعي لتجفيف منابع التضامن الرقمي مع الفلسطينيين داخل أميركا نفسها، بعدما فشلت محاولات الحجب المباشر".