استمع إلى الملخص
- يتميز المسلسل بتداخل الفكاهة مع الرعب وتحولات مستمرة، مما يعكس رؤية ديفيد لينش الفنية التي تركز على أنماط إدراك غير عقلانية، ويجعل المشاهد يشعر بالتوتر الحسي.
- في الموسم الثالث، يتعمق المسلسل في تفكيك الشكل السردي وتحدي توقعات الجمهور، مما يجعله تجربة تلفزيونية تجريبية تثير القلق والتساؤل.
ثمة ما لا ينضب في "توين بيكس" (Twin Peaks). شيء لا يخضع لاستهلاك المتفرج ولا لعوامل الزمن. لهذا السبب يعود دائمًا، في كل مرة مختلفاً، وكأنه يعيد تكوين نفسه. "توين بيكس" ليس مجرّد مسلسل أحدث تحولاً في تاريخ التلفزيون، وليس مجرد ظاهرة نُظر إليها باعتبارها غريبة أو هامشية، بل هو عمل يستعصي على التصنيف، ويتجاوز الأطر التقليدية للسرد والشكل.
في كل عرض جديد للمسلسل (على منصة موبي منذ منتصف الشهر الحالي)، ومع كل جيل يشاهده للمرة الأولى، يظهر ما يشبه الدافع الخفي الذي يصعب تسميته بدقة. الأمر لا يتعلّق فقط بالقصة أو الشخصيات، بل بتجربة سمعية وبصرية تعمل خارج إحداثيات السرد التقليدي، كأنها مساحة يتوقف فيها الزمن، وتتلاشى فيها الحدود بين الرغبة واللغة والهوية. في هذا السياق، لا يمكن اعتبار "توين بيكس" مجرد مسلسل عن جريمة أو عن عميل فيدرالي يحقق في مقتل شابة. إنه عمل يستعرض الشرّ ليس بوصفه فعلاً، بل قوة، طاقة مبهمة تتجاوز أي تمثيل أو تفسير.
كذلك، لا يمكن حصر "توين بيكس" في فئة درامية أو نوعية محددة. منذ حلقاته الأولى، أوضح أنه لا يلتزم بقواعد المسلسلات التلفزيونية، حتى وهو يبدو أحياناً وكأنه يتبعها. الحلقات لا تسير بالضرورة نحو ذروة، بل تتوقف، تنحرف، وتعيد رسم المسارات. التوتر الدرامي يتحول إلى شعور معلّق، والفكاهة تتجاور مع الرعب من دون أن يتعارضا. تسود أجواء شبيهة بالحلم، لا بوصفها استعارة، بل كقاعدة حقيقية تحكم العالم داخل العمل.
ليس من قبيل الصدفة أن مخرج المسلسل، ديفيد لينش، مارس لسنوات تقنية التأمل التجاوزي. في "توين بيكس"، يشعر المشاهد، أكثر من أي عمل آخر له، بمحاولة فتح الوعي على أنماط إدراك غير عقلانية. هذا البعد النفسي لا يظهر فقط في مواضيع المسلسل، بل ينعكس في تركيبته الفنية: الإيقاع، المونتاج، والمؤثرات الصوتية. المشاهد الأكثر تميزاً لا تحمل أهمية سردية مباشرة، لكنها تخلق نوعاً من التوتر الحسي، كأنها لحظات "شعور" أكثر منها "حكاية". لينش لا يطلب من المشاهد أن "يفهم"، بل أن "يشعر"، في نقطة تقع بين الجسد واللاوعي.
لهذا السبب، يُنظر إلى "توين بيكس" بوصفه عملاً تجريبياً أكثر منه قصة تقليدية. ليس ما حدث للورا بالمر هو الجوهر، بل ما يعنيه موتها، أو ربما: ما يعنيه أنها لم تمت حقاً. إن الصورة الأكثر دلالة في المسلسل ليست جثتها الملفوفة بالبلاستيك، بل وجهها العائم في فراغ أسود، يعود مراراً كتجلٍّ، كصدى، كحضور رافض للاختفاء.
فكرة "القرين" أو "الانعكاس المشوّه" هي من الثيمات الأساسية في أعمال ديفيد لينش، وتتجلى بوضوح في "توين بيكس". تتكرر الثنائيات: العميل كوبر ونظيره المظلم، العالم الواقعي وعالم الأشباح، وجه المدينة المألوف وظلالها المخفية. لكن هذه الثنائيات لا تُقدَّم على أنها تناقضات قابلة للحل، بل بوصفها تحولات مستمرة، لا تؤدي إلى يقين أو نهاية. السرد نفسه يصبح عنصراً مضلِّلاً، يُستخدم لينتج التوتر لا ليفكّه. المهم ليس ما يحدث، بل كيف يحدث، ومتى.
تجسّد هذه الفكرة بوضوح في الموسم الثالث من المسلسل، الذي عُرض بعنوان "توين بيكس: العودة" (2017). هذا الجزء لا يعمل استمراراً تقليدياً، بل هو إعادة تشكيل جذري للعمل. على مدار 18 حلقة، يذهب لينش بعيداً في تفكيك الشكل السردي، وتفجير توقّعات الجمهور الذي أصبح معتاداً على أنماط الحكي السريعة والمباشرة. تتكرّر المشاهد، تتغيّر الشخصيات من دون مقدمات، ويمتد الزمن إلى أقصى حدوده. حتى شخصية كوبر، التي تمثل محور المسلسل، تمرّ بتجربة تبدو أقرب إلى تناسخ معطوب منها إلى رحلة بطل.
في الحلقة الثامنة تحديداً، يُقدّم لينش واحدة من أكثر التجارب التلفزيونية تطرفاً. مشهد طويل يمتد لأكثر من عشرين دقيقة يصوّر تفجير القنبلة الذرّية في نيو مكسيكو، ثم يتبعه تسلسل تجريدي بلا حوار، أشبه بفيلم تجريبي. هذه اللحظة، بكل غرابتها، تعبّر عن الهدف الأعمق لـ"توين بيكس": تجاوز التلفزيون بوصفه وسطاً مألوفاً، وتحويله إلى تجربة حسية تتحدى مفاهيم الزمن واللغة.
ومع ذلك، يظل "توين بيكس" عملاً تلفزيونياً في جوهره، ليس بسبب شكله، بل بسبب طريقته في التعامل مع الزمن. بخلاف السينما التي تُقدّم بوصفها عملاً مكتملاً، تبقى المسلسلات فضاءً مفتوحاً للتكرار والتوقّع. كل حلقة أشبه بجلسة تأمّل. نعود إلى نفس المكان، لكن بتبدّل خفيف. إنه منطق الحلقة، التكرار، والشريط المغناطيسي. العودة الأبدية مع انزياح طفيف في المعنى.
في زمن أصبحت فيه الأعمال السمعية البصرية خاضعة لخوارزميات تتنبأ بذوق الجمهور وتبني السرد وفق رغباته، يظهر "توين بيكس" بوصفه استثناء. لا يسعى إلى إرضاء المتفرج، ولا إلى تقديم إجابات، بل يعمل على إرباك التوقّعات وتعطيل السرد. قوته تكمن في هذه المقاومة، في ما يمنعه من التفسّر أو الاكتمال.
لذلك، لا ينبغي النظر إلى "توين بيكس" على أنه مسلسل "كَلْتي" (Cult) أو ظاهرة فنية مرّ عليها الزمن، بل هو تجربة مستمرة، اضطراب لا يزال قادراً على إثارة القلق والتساؤل. كل مرة نعود إليه، نتغيّر. ليس لأنه يحمل رسالة ثابتة، بل لأنه يتيح لنا فرصة الانغماس في تجربة لا تُغلق على ذاتها، ولا تكتفي بتكرار المعنى.
إعادة مشاهدة "توين بيكس" اليوم ليست فعل حنين، بل فعل استكشاف. مواجهة مع عمل لا يزال يطرح الأسئلة ذاتها: ماذا نرى عندما ننظر؟ وما الذي يُخفيه التلفزيون خلف الصورة؟ في زمنٍ يُعيد إنتاج المعنى بسرعة، يظل "توين بيكس" واقفاً في الظلّ، يلوّح لنا بشيء لا اسم له، لا يمكن لمسه، لكننا نشعر بوجوده. كالحلم: لا نتذكره تماماً، لكنه لا يتركنا.