تود هاينز: "بتأمّل ما تعيشه النساء نتعلّم الكثير عن العالم"

18 ابريل 2025
تود هاينز: أفضل سينما تلك التي تستحضر شيئاً شعرياً (جون لامبارْسكي/Getty)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- فيلم "ماي ديسمبر" لتود هاينز يتناول قصة إليزابيث التي تتقمص شخصية غرايسي، مسلطاً الضوء على تعقيدات الهوية والسلطة في المجتمع من خلال مقاربة فنية تتحدى الأعراف.
- يمزج الفيلم بين الميلودراما والثريلر السيكولوجي، ويقدم نقداً للنظام الأبوي عبر شخصيات نسائية تتبنى السلطة الذكورية، مما يثير تساؤلات حول الأدوار التقليدية.
- يعتقد هاينز أن السينما والشعر يتشاركان في تجاوز اللغة التقليدية، ويؤكد على أهمية الأفلام التي تثير تساؤلات وتعمل على مستوى عاطفي وفكري.

 

يندر أنْ تجد مخرجاً مُعاصراً، كالأميركي تود هاينز، يتناول الشرط الأنثوي بحساسيةٍ، تُنصف تعقيده وتدرّجاته الدقيقة، من دون وضعه في خانات ضيقة، أو خطابات ذات أجندة ضيقة. مُتسلّحاً بروح استقلالية، وسعي إلى ابتكار رافقاه منذ بداياته، انبرى هاينز، في جديده "ماي ديسمبر"، لقصّة (سيناريو سام بيرش) إليزابيث (ناتالي بورتمان): ممثلة مشهورة، تُقابل غرايسي (جوليان مور)، المرأة التي ستؤدّي دورها في فيلمٍ سينمائي، فتعيش فترة في بيتها لاستلهام شخصيتها، وتشرّب ملامح علاقتها بزوجها جو (تشارلز ميلتون). علاقة أشعلت الصحف الصفراء قبل 20 عاماً.

بهذا المثلّث المركّب، يضع هاينز لبنة أخرى في مشروعه الكبير، المتمحور حول فهم الهويات، والمهام المُسندة إلى ضوئها، وكيفية بنائها وتفكيكها في المجتمع، مُتبنّياً مجدّداً مقاربة شكلية فريدة، تنقلب على القوالب الجاهزة، بالطريقة نفسها التي تسائل مواضيع أفلامه الأعراف السائدة، وهياكل السلطة المهيمنة.

يتموقع "ماي ديسمبر" في مساحة مشتركة بين جمالية الميلودراما (نسجاً على إرث المعلّم دوغلاس سيرك) والثريلر السيكولوجي مُتعدّد وجهات النظر، ويُبئّر على عملية التمثّل نفسها، وكيف تحمل في قلبها دائماً منزلقاً نحو منطقة فاسدة ومُضلّلة، يحفّها الادّعاء والبغض، بدل التواضع والتعاطف الضروريين لكلّ مقاربة فنية.

 

(*) أنت أحد المخرجين المعاصرين القلائل الذين يُقدّمون تمثّلاً مخلصاً وصادقاً للشخصيات النسائية، من دون خطاب نمطي أو برهانية. ما سرّك؟ كيف تنجح في ذلك؟

أحبّ الأفلام التي تدور حول النساء، وأحبّ مشاهدة تلك التي تعاين نساءً في مواقف منزلية، أكثر من الرجال. أعتقد أنهنّ يحتللن مكاناً مُعقّداً في المجتمع، بتحمّلهن عبء الحفاظ على مؤسّسة الأسرة وتربية الأطفال، بينما للرجال حرية الحضور والغياب، نوعاً ما. عندما نعتقد أنّنا انتهينا من خوض هذه المعارك، وأحرزنا تقدّماً، ننظر إلى من انتُخب رئيساً مرة أخرى في الولايات المتحدة، فنُدرك أنّ في ذلك تكريماً للأنا الذكورية الضعيفة.

هذا أوصله إلى منصبه، برأيي. الرجال الذين يرتاحون إلى رجلٍ يخاطب أناهم المنكسرة والضعيفة، والنساء اللواتي يجدن طبيعياً حماية رجال ينتمون إلى عائلاتهن من ضعفهم الخاص، جميعهم صوّتوا لترامب.

هذه إشكاليات لا تفتأ تعود، ومؤسف أنْ نكتشف أنّنا تراجعنا 50 عاماً إلى الوراء، على مستوى الحقوق الأساسية للمرأة، بما في ذلك مسألة حقوق الإنجاب. كلّ ذلك يساهم في فكرة أنّنا نتعلّم الكثير عن حقيقة ما يجري في العالم، بتأمّل ما تعيشه النساء، أكثر من أي شيءٍ آخر.

 

(*) مقالات كثيرة تحدثّت عن خصال "ماي ديسمبر"، وجمهور كبير أُعجِب به، لكن بشيءٍ من الانزعاج أيضاً. ما التأثير الذي تبحث عن خلقه في جمهورك؟ ما المشاعر، أو ردود الفعل التي تُحبّذها؟

السيناريو الذي كتبته سامي بيرش جريءٌ ومُعقّد حقّاً، لأنّ الشخصيتين النسائيتين، الأقوى فيه، متلاعبتان أيضاً. تبنّتا أساساً نوعاً من السلطة الذكورية، التي يُعتقد عادةً أنّ الرجال فقط من يقومون بها. لذا، نحن إزاء انقلاب في الأدوار، إذْ يصبح الرجل أسيراً لإملاءات المرأة.

لكنّي لا أزال أعتقد أنّ في ذلك نقداً للنظام الأبوي، أساساً. فهذه النساء استثناءٌ لا قاعدة. لذا، تُمرّر كلّ هذه القضايا للمُشاهد، ليتعامل معها بنفسه. آمنّا جميعاً بالفيلم، وصنعناه كالأفلام التي تُثير أسئلة صعبة ومُقلقة. أعتقد أنّنا، جوليان مور وناتالي بورتمان وأنا تحديداً، كبرنا ونحن نشاهدها. لكنّنا كنّا نعلم أنّ هذه قضايا ساخنة، يُمكن للصحافة ووسائل التواصل الاجتماعي الانقضاض عليها بسهولة، وجعلهها مُثيرة للضجّة.

ما حدث في النهاية أنّ الناس تعاملوا مع الفيلم وتحدّثوا عنه بما هو عمل مُعقّد، لا يتعيّن عليه بالضرورة أنْ يتماشى مع الأفكار السائدة بهذه الطريقة أو تلك. وبالتالي، من شأنه الدفع إلى التفكير والتساؤل. لذا، ردّة فعل الجمهور بالنسبة إلي مُشجّعة، خاصة أنّه لا يزال مُهتمّاً بمشاهدته، لاحتوائه على فُكاهة، ولإثارته جدلاً ونقاشاً حقيقيين.

هذا ما آمله. هذا ما تفعله الأفلام التي أحبّها.

 

(*) في مشهد حكي جو لإليزابيت عمّا مرّ به، تقول له: "سأحاول أنْ أكون وفيّة قدر الإمكان لقصتك"، ما يُثير استياءه، فيجيبها: "هذه ليست قصة. إنّها حياتي". أعتقد أنّ هذا المشهد يقول الكثير عن العالم الذي نعيش فيه اليوم، خاصة أنّ ما يتشاركه الناس في شبكات التواصل الاجتماعي يُسمّى بالضبط "قصصاً" (ستوريز). هل تعتبر هذا أحد المواضيع الرئيسية للفيلم؟

إنه بالتأكيد جانبٌ تفرضه شخصية إليزابيت على عائلة حقيقية، نظراً إلى تاريخها الفريد والغريب جداً، المتمثل بعلاقة امرأة أكبر سنّاً بشابٍ تغرم به. ترى إليزابيث في ذلك تحدّياً ونوعاً من الهامش التجاري لقصة رائعة، يُمكن لها لعب دور البطولة فيها. أليس كذلك؟

هذا يتعلّق بالادّعاء الذي ينتاب المُبدعين، حين يقتحمون وضعية واقعية، مُفترضين أنّهم يستطيعون قول الحقيقة انطلاقاً منها، وأنّهم يتملّكونها. تقول إليزابيت ذلك مرات عدّة. هذا الجانب يتعلّق بالتأكيد بشخصيتها. لست مُتأكّداً أنّه يصف أيضاً ما حدث بين غرايسي وجو. أعتقد أنّ هذا جانب آخر من القصة، مُعقّد للغاية. الطريقة التي اتّفقا بها على شروط العلاقة بينهما، حتى لو كانت تضع غرايسي في موقع القوة من وجهة نظر ما، جعلت الأمور تبدو كأنّ لجو سلطة منحته إياها، نوعاً ما. لكنّ ذلك مجرّد تمويه على ما كان يحدث فعلياً.

 

سينما ودراما
التحديثات الحية

 

(*) هناك مشهد رائع لغرايسي، تضع المكياج على وجه إليزابيت أمام المرآة. أجده مذهلاً، لأنه يقول الكثير من دون حوار، وصُوِّر بطريقة سينمائية صرفة، تمزج مفعول المرآة بتأثير الشبيه/ة. هل كان هذا المشهد مكتوباً بشكل صريح في السيناريو، أمْ أنك أوجدت كنهه في التصوير؟

المشهد مكتوبٌ في السيناريو، لكنّ الحوار تُرك حُرّاً في النص، قبل كتابته وتسليمه إلى الممثلتين، تماشياً مع فكرتي عن التأطير الثابت، واختيار مشهد طويل، وعدم التدخل بالقطع في المونتاج. أخمّن في إنغمار بيرغمان، وأمثلة أخرى رائعة ومُلهمة للكاميرا المتأمّلة، وفكرة النظرة المباشرة نحو العدسة، فتصبح الكاميرا مرآة، وينظر الممثل مباشرة إلى عدستها كأنّه ينظر إلى نفسه، ثم يحوّل نظره بعد ذلك خارج العدسة، بحثاً عن انعكاس الشخص الآخر في المرآة.

كل ذلك يفهمه الجمهور تماماً. اعتقدتُ بدايةً أنّ الناس سيشاهدون "ماي ديسمبر" ويمضون، وهذا سيكون جيدًا، أو أنّهم سيقولون: "أحببتُ الطريقة التي أنجزتَ بها تلك المشاهد الطويلة. كانت جدّ طليعية". لكنْ، بدلاً من ذلك ـ أعتقد أنّ هذا بفضل الممثلتين ـ اندمجوا في توتّر الشخصيتين، وانغمسوا في القصة، غير مُنتبهين إلى طول المشهد، وكيف أنّه لم يكن يخبرهم ما ينبغي أنْ يفكّروا به في كلّ ثانية.

هذا مرتبطٌ بلحظات التوقّف التي كانت جوليان وناتالي تأخذانها بين السطور، والتوتّر الذي كانتا تنقلانه إلى المُشاهد. أدين بذلك إلى قرار تسليم الأمر إلى مؤدّيتين مُحترفتين، وإعطائهما المساحة الكافية لإنجاز ما تُتقنان فعله.

 

(*) هناك إشارات رائعة إلى سينفيليتك في الفيلم: موسيقى ميشال لوغران من "الوسيط" (جوزيف لوزي، 1971)، وغمزات إلى "كلّ شيء عن إيف" (جوزف مانكيفيتش، 1950) أيضاً. هل كانت هذه أشياء وضعتها في الفيلم بناء على فكرة واضحة، أمْ أنها جاءت بشكل طبيعي؟

أعتقد أنّ الفكرة الأساسية على الورق مرتبطة بالتأكيد بما يمكن للمرء أنْ يفكّر به أثناء مشاهدة قصة "كلّ شيء عن إيف"، خاصة الديناميكية بين المرأتين. لكنّي وقعت على الموسيقى صدفة. لم أكن شاهدت "الوسيط" منذ أنْ كنت طفلاً. وحين أعدت مشاهدته، كنت مصدوماً ومشدوداً بقوّة النوتة الموسيقية، وكيف أنّها أثارت فيّ تساؤلات، حتى قبل بداية الفيلم، عمّا سيدور حوله هذا الأخير، وكيف تضع المُشاهد في حالة تأويل متحمّس.

لكنها كانت تجربة ممتعة ومثيرة للتشويق، ولم تكن محض اشتغال. هذا ما أردت أنْ يُدعى إليه مشاهد "ماي ديسمبر". كما أنّ "الوسيط" قصة مثلّث بين جولي كريستي وألن بيتس والفتى. بالتالي، دوّرتُ مواضيع موجودة في عمل لا يعرفه بالضرورة أناس كثيرون في الولايات المتحدة.

 

(*) أيمكننا التحدّث عن علاقتك بالشعر؟ أنجزت سابقاً "القتلة"، متوسّط الطول، عن علاقة آرثر رامبو ببول فيرلن.

إنّه فيلم مثيرٌ للجدل. أحببت الشعر منذ صغري. مُراهقاً، عندما عرفت أنّ علاقة حبّ تجمع هذين الشاعرين، كانت ردّة فعلي "واو". لكنّي تعلّمت أنْ أتعايش مع الأمر، وفهمت بشكل أفضل بعض قصائد شعرهما.

 

(*) ما المكانة التي يحتلّها الشعر في حياتك، وفي رؤيتك بصفتك مخرجاً؟

أفضل سينما تلك التي تتضمّن/تستحضر شيئاً شعرياً، يعمل بالحد الأدنى من المفاهيم، ويستخدم الصُور والوسيط الزمني إلى حدّ كبير، كما تشتغل الموسيقى لتحقيق تواصل عاطفي مع الجمهور. لكنْ، هناك أيضاً آفاق فكرية ونقدية، ما يُمكن للشعر أنْ يفعله. بالنسبة إليّ، حقيقة أنّ رامبو وفيرلن أحبّ أحدهما الآخر، وكانت علاقتهما مُعقّدة وعاصفة للغاية، تأكيدٌ على مشروع شعر رامبو، الذي تمحور حول إعادة كتابة العالم، والعثور على لغات جديدة للتعبير المتفرّد، وإعادة ابتكار الشعر. حتى هذه تظلّ ضعيفة، مقارنة بما أراد فعله. هناك شيء راديكالي في طموحه. لذا، كسرت حياته الشخصية والجنسية القواعد، وتحدّت الأعراف الاجتماعية، وحاولت صوغ مسار جديد كلّياً.

 

(*) هل تعتقد أنّ هناك مكاناً للشعر في ظلّ ما تنتجه السينما في السنوات الأخيرة؟

طبعاً. يبدأ الأمر بتعريف للشعر يتجاوز التعريف الحرفي. هذا يُمكننا إسقاطه على الوسائط الأخرى، موسيقى وأفلام ورسم ورقص. أعتقد أنّ على الأفلام الاشتغال على هذا المستوى الأولي للتواصل، ليس بالكلمات، بل بما يتجاوزها. في الشعر العظيم، تكاد الكلمات تكون أصواتاً يُفهم معناها من دون أنْ تعرف أو تفكّر في معنى الكلمة نفسها. كما لو أنّ لها وظيفة خاصة، تتجاوز معناها.

لذا، نعم. بهذه الطريقة، هناك لكلّ شكل من أشكال الفن جوهرٌ يتجاوز اللغة الراسخة أو السائدة فيه.

 

(*) ذات مرة، قلتَ إنّك تحبّ إنجاز الأفلام مع شعور بالاهتزاز والانزياح. أيمكنك توضيح ذلك قليلاً؟

لستُ متأكداً من السياق الدقيق لهذا الاقتباس، لكنّي يُذكّرني بما يقوله دوغلاس سيرك عن أفلامه: "عليك بذل أقصى ما بوسعك لتحبّ شخصياتك وتكرهها في آن". بمجرد أنْ تُحبّ الشخصيات في فيلمك، فأنت أساساً تداعب كبرياءك بتمرير عاطفة كبيرة إليها. لكنْ، عندما تبدأ برؤية تناقضاتها، والأشياء التي تزعجك حولها، أو تجعلك تتساءل أو تدفعك إلى التراجع، عندها، تكون في مساحة نقدية غنية جداً، تفتح لك احتمالات كثيرة، وهذا ليس سهلاً دائماً.

يقول فاسبندر إنّ أفلام سيرك تتركك غير راضٍ في النهاية، لأنّها لا تمنحك حلاًّ للعقدة. لكنّ سيرك، طبعاً، كان يحب الشعور بهذا التناقض، وأظنّ أنّ ذلك ينسحب على فاسبندر، وعليّ أيضاً.

 

(*) أهناك أيّ تطوّر جديد لمشروعك المجهض مع يواكين فينيكس، والخلاف الذي نشب بينكما أثناء تحضيره؟

لا يوجد شيء أريد قوله عن هذا الموضوع. ما حدث مخيبٌ للآمال، وكفى.

المساهمون